بغداد/المسلة:
عبد الستار الجميلي
كان موضوع الهوية وما زال موضع جدل خلافي في الفلسفة والإجتماع والسياسة والقانون، بأبعاد سياسية وإقتصادية وجيوسياسية، مع التحولات التي شهدها العالم بعد الحربين الأوربيتين الأولى والثانية. حيث أخذ موضوع الهوية يُفرض من خارج سياقه التاريخي والمجتمعي المتشكل وفق معطيات التفاعل بين اللغة والأرض لجماعة بشرية إمتلكت عبر هذا التفاعل هوية ديمغرافية وتاريخية وجغرافية كمكون ثقافي وحضاري. وقد تم التعبير عن هذا التطور الهوياتي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالهوية القومية لمجموعة من الأمم التي إمتلكت موضوعيا وذاتيا روابط الأمة الواحدة الاجتماعية واللغوية والتاريخية والجغرافية والإقتصادية، في إطار تطور البشرية الذي وصل إلى مرحلة الأمم، حتى أُطلق على القرنين المذكورين بعصر القوميات وتجليه الأساسي بحق تقرير المصير القومي الذي يتمثل بتطابق الحدود السياسية للدولة مع الحدود القومية للأمة.
وبتأثير المصالح الإستعمارية، العنصرية الإستعلائية والإقتصادية التقليدية والجيو سياسية العصرية، تفكّكت الدول التي كانت تشمل أو تحتلُّ عددا من الأمم، ليبدأ بذلك الجدل الهوياتي الذي أخذ أبعاداً جديدة، من خلال إستغلال الأقليات الإثنية واللغوية والملل والنحل، بطريقة تفكيكية للأمم وإنشائية لبعض المجموعات التي تمّ صنع هويات لها، منتزعة من شظايا وقائع جرى برمجتها أيديولوجيا وفق منظور تمزيقي للهوية الرئيسة الراسخة موضوعيا وذاتيا، بما يخدم المصالح الجيو سياسية للقوى المهيمنة على هيكل النظام الدولي وموازين القوى فيه، خصوصا القوى الغربية، التي وضعت برامج تفكيكية متنوعة على مستوى العالم كله، بما يضمن المركزية الغربية الأحادية المهيمنة.
كانت الدول الأوربية قد حققت دولها القومية( ألمانيا، إيطاليا، بريطانيا… الخ) أو فرضتها إحتلالا وابادة وصناعة( الولايات المتحدة الأمريكية نموذجا)، لكنها في نفس الوقت وقفت أمام حق تقرير المصير القومي لأمم أخرى، عندما شعرت بأن إطلاق هذا الحق وفق منظور الدولة القومية الواحدة، سيُهدد هيمنتها على العالم، نظراً لأنّ بعض الأمم، خصوصاً الأمة العربية، تملك مفاصل وعقد القوة الجيو سياسية والإستراتيجية الأساسية في العالم، التي تهدّد هذه الهيمنة. فلجأت إلى جانب الحروب الدولية والداخلية ومشاريع التفتيت والتقسيم، لجأت إلى فرض جدل الولاءات الفرعية المصنوعة على حساب الهوية الرئيسة ذات الأبعاد الحضارية والثقافية الراسخة، عبر توظيف مبادئ وقواعد القانون الدولي والعلاقات الدولية، تحت غطاءات الديمقراطية والليبرالية وإقتصاديات السوق المفتوح وحقوق الإنسان وتقرير المصير وحرية الرأي والتعبير، وغير ذلك من المفردات المغتصبة من سياقها المعرفي والقانوني والسياسي والإنساني. وقد ساهمت في عملية التوظيف والإغتصاب شخصيات ومراكز بحوث وجامعات وفنون وآداب وإعلام ومؤسسات رسمية وغير رسمية، وفي جميع الحقول المعرفية الإجتماعية والعلمية، النظرية والعملية، في الولايات المتحدة وأوربا، موجهة خطابها إلى شعوب كانت ضحية أزمات متعددة وتعاني من آثارها الشاملة، ساهمت تلك القوى المهيمنة في إنتاجها، لتشتغل عليها بعد ذلك.
كان العراق أحد تجارب هذا الجدل الهوياتي المنتزع من سياقه التاريخي والإجتماعي.. وفق ثلاث مراحل، بدأت بالتفكيكية الثقافية، حيث إنشغلت الساحة الثقافية العراقية، بالمدارس الأدبية والثقافية والفنية، التي يعود بعضها إلى أربعينيات القرن الماضي، من الكتابة تحت الصفر إلى التفكيكية ….والخ التي قد تكون هذه المدارس تعبيرا فلسفيا وثقافيا إيجابياً عن مجتمع وسياق تاريخي محددين، لكن جرى من خلال هذه المدارس تفكيك الساحة الثقافية في العراق وتغريبها عن واقعها تمهيداً لمرحلة أخطر هي التفكيكية الإجتماعية.
فمن خلال التفكيكية الإجتماعية جرى تفكيك المجتمع العراقي، إلى ولاءات فرعية لطوائف وأعراق وملل ونحل منتزعة قسراً من حقائق الجغرافية والتاريخ، على حساب هويته الوطنية والعربية والإسلامية الجامعة، وبدأ العراق يُطرح، دولة ومجتمعاً، في مراكز البحوث والجامعات والتقارير الإستراتيجية الغربية، على أنّه مجرد جزر طائفية وعرقية وملل ونحل متصارعة لا يجمعها جامع وطني، في موازاة طرح مشاريع التفتيت والتقسيم إلى خرائط ثلاثية ورباعية وخماسية، وربما سداسية على غرار نجمة داوود؟؟!!
ثم بدأت المرحلة القاصمة بالتفكيكية السياسية للدولة نفسها وعناصرها.. كانت الحركة الوطنية العراقية قد تبلورت، منذ بداية تشكيل الدولة العراقية الحديثة، في أربعة تيارات أساسية: التيار القومي العربي، والتيار الماركسي، والتيار الليبرالي، والتيار الإسلامي، وكانت الأقليات القومية والإثنية واللغوية منضوية تحت واحد من هذه التيارات أو شبه إستقلال فكري لكن في إطار الولاء للهوية الوطنية الجامعة.. لكن الذي حدّث أن التفكيكية الثقافية والإجتماعية قد تجلّت سياسياً في تقسيم غريب لا يمت بصلة للعصر والدول الحديثة، قَلبَ معادلة وتيارات الحركة الوطنية العراقية والمعارضة العراقية مع بداية تسعينات القرن الماضي، إلى أحزاب وتيارات طائفية وعرقية وأقلوية، تتوجت بعد الإحتلال بتفكيك الدولة العراقية إلى شكل أكثر غرابة تحت عنوان الفيدرالية الذي لا يمت بصلة لفكرة وتجربة الفيدرالية كتوزيع للإختصاصات بين المركز والاقليم في إطار إمتداد جغرافي وسكاني واسع يتطلب موضوعياً هذا التقسيم، ولكنه عنوان يخفي نوايا التقسيم والإنفصال وتهشيم الدولة وفرض الإزدواجية في الهوية بولاءات فرعية لمكونات وهمية جرى فرضها قسراَ وإكراهاً، مسمّى وولاءً. والإزدواجية في السيادة واللغة والرموز بما فيه حتى العلم والسلام الوطني، وفق نظام سياسي هجين وديمقراطية شكلية مزيفة، أنتجا بجدارة: ثلاثية الإستبداد والفساد والتبعية، وصراع مرير على ثلاثية أخرى هي: السلطة والغنيمة والإقصاء.
هكذا جرى تزييف جدل الهوية الجامعة والولاءات الفرعية في العراق، مع سبق الإصرار والتخطيط، بطريقة أوصلته إلى مصاف الدولة الفاشلة، والشعب العراقي إلى حالة من غياب الأمل وعدم اليقين، والمستقبل إلى الشك والتساؤل المرير.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
اعلامي مصري لـ “الجولاني”: قتلت الابرياء في العراق بسبب خلافات قبل 1400 سنة!
مصدر رفيع يكشف مباحثات الوفد العراقي مع الإدارة السورية
المالكي: يجب دعم هيئة المساءلة والعدالة لمنع تسلل افراد البعث الى الدولة