المسلة

المسلة الحدث كما حدث

انا والقراء.. محنة الكتابة والتأويل

9 ديسمبر، 2022

بغداد/المسلة:

ابراهيم العبادي

في معرض حديثه عن بدايات شغفه بالدراسات الفلسفية المعمقة ،كتب الفيلسوف الفرنسي الراحل بول ريكور (1913-2006) عن مايسميه حاجته الى السبر الحر للاسئلة المحرجة التي تقف عند حدود التفكير، حيث درب نفسه في مملكة الافكار كما يقول، ليخرج لنا بعد مخاض عمر طويل كتبا عديدة كان بينها كتابه عن (صراع التأويلات)وهو محصول للصراع الفكري والفلسفي والنقدي والمنهجي الذي تاسس عليه الفكر الغربي منذ منتصف القرن الثامن عشر ،وهو صراع يقوم على حرية الفكر والتفكير كما يقول مترجمه الدكتور منذر عياشي (2005).

يشهد عالم الكتابة والقراءة صراع افكار ومجادلات تأويل واختلافات فهم على نطاق واسع ،اذ تتفاوت مستويات الفهم والادراك بين البشر عموما ،ومايخرج من عالم الكتابة الى عالم استهلاكها -حيث تحتشد عقول القراء – يصبح ملكا مشاعا، رغم انه ملكية (فكرية )خاصة، فالكاتب -اي كاتب -يكتب معبرا عن رأيه وفهمه وتأويله ووساوسه وغاياته انه يسوق منتجا للجمهور بهذه التوليفة من (الاهداف) قاصدا المشاركة والتفاعل في فهم الواقع وتحسينه او تغييره والتنبؤ بالمستقبل وترصينه، الكتابة فكر ونظر، وسرد وبوح، وفهم وتجميع واجتزاء، وابداع وتقليد ونسخ، واحيانا خداع وتضليل وتعمية وتسويق، ليس الكتّاب على سواء ،كما ليس القراء على مسطرة فهم واحدة، غير ان الطريف في الامر، ان النص، اي نص، مهما كان متينا او عميقا او مسطحا او ضحلا، لا يبقى على عذريته لحظة وقوعه بيد القراء، بل يعاد الالتحام به، فيتفاعل مع منظوماتهم وقبلياتهم وهواجسهم ومخاوفهم وامانيهم ورغباتهم، محصلة ذلك مايظهر من اشادات او ارتياح، او قلق او رفض، او نقد او شتيمة، بل يصل رد الفعل احيانا الى الثأر والانتقام.

الكاتب في محنة مع جمهور قراءه ،والجمهور في محنة مع افهامهم وادراكاتهم، حيث تتعدد طبقات الفهم والادراك.

بدهي ان الكتابة في الشان الفكري والسياسي العراقي ،تستلزم اعترافا باتساع مديات الاختلاف والقبول ، مع او ضد ،كثيرون لا يستطيعون الخروج من عالم الثنائيات الاثير ،ثمة قاريء يحاكم نواياك ،يعزوها الى ما يتخيل من مصالح واهداف، وقاريء يشاركك الرأي ويقبل جزءً ويعارض اخر، وقاريء يشتمك لانك تضغط على الجانب الذي يريده مسكوتا عنه ،وانت تكشفه وتجعله عاريا ، الحقيقة لا تقبل التغليف ،انها عارية على كل حال ،قاريء اخر عميق الفهم يلتقط ثيمات الكتابة ويتطابق معك في الفكرة او قد يعارضها من حيث انها لا تتسق مع منظومته الفكرية وولاءاته السياسية ،التصنيف حاضر دوما ،لا يفهمك القاريء الا بعد ان يصنفك ،من انت ؟من اي اتجاه فكري ؟ ماذا تريد من بضاعتك المعروضة ؟التصنيف هو اسهل طرق استجلاء الحقيقة ،لكن يبقى جزء من جبل الجليد المغمور بالماء ،يصعب اكتشافه الا بالتأويل ،تأويل الكلام ،تفكيك النص ، هنا تتجسد محنة الكتابة والكاتب ،الفكر النقدي مكروه ،ثقافة النقد فقدت اطرها واخلاقياتها وصارت ابتذالا وابتزازا في عصر حرب الكل ضد الكل ، كما يقول توماس هوبز ،المجتمع يمور في صراعات سياسية وهوياتية وحزبية ومناطقية ،والتعبير عن الرأي في زمن الصراعات ضرب من المقامرة ،فانت لا تدري اي خسارة ستواجهها ان لم يات الرأي موافقا لما يرغب به الجمهور ،التفكير بالرغبات والاماني هو السائد Wishfull thinking,وكل جمهور له ايديولوجيته وانحيازاته ومصالحه ،في الصراعات والنزاعات لامجال للحقيقة ان لم تكن موافقة كليا او جزئيا لما يرغب به الجمهور ،يشتمك احدهم لانه يظن انك مسست السياج الارثوذكسي الذي يتحصن به ،يعتبره خطا احمرا ،يمتدحك اخر لانك كنت جريئا وناقدا وشجاعا ويغريك بان الشجاعة الادبية هي مايميز الكاتب الجاد صاحب المباديء ،يريدك اخر ان تظل حصينا بقلعتك الايديولوجية فاذا نقدت عيوب الماضي وعلل الحاضر ، قالوا عنك هذا ليس من منظومتنا الفكرية ولاينتمي الى اصالتنا التاريخية ،بل هو الخروج عن المسطرة التي صممها وصنعها رجالات عهد ماض.

خذ مثالا على ذلك ،اذا كتبت عن اعادة النظر في مفاهيم ذات جذور فكرية -عقدية ،لضرورات ملحة يقتضيها واقع المجتمع والدولة ،صرت متأثرا بالموجة الثقافية الجديدة ، وفقدت اصالتك وتصنيفك (الاسلامي)،اذا دعوت لقراءة متبصرة بالواقع الاسلامي ، وحاولت ان تتفلت من الخطاب الرسمي المتخشب الصلب ،صرت مشاركا في الحرب الناعمة التي يشنها المستكبرون على المستضعفين المقاومين !!!،اذا قلت ان الجمود على خيارات بعينها ليس ضرورة او فريضة او التزاما بجانب الصواب ، انما اجتهادا في مقابله الف اجتهاد ونظر ،قالوا ليس من حق العقول المرتابة ان تفكر في قبال عقول متيقنة ،انت اذن مجبور ان تعيش في مزرعة تفكر بدورك ولاتتجاوزه ،المزرعة تدار وفق الادوار ،وظيفتك التعبئة وحماية امن المزرعة من اعداء الخارج ،لا عليك بمايحصل من صراعات ومشاجرات وتنافس داخل حدود المزرعة ،دع النظام يسير كما هو كائن ،لاوقت لدينا لسماع ماينبغي ان يكون ،الوقت لايسمح بضياع الجهد للتجديد والتجريب واعادة التفكير…عندما يهزل النظام داخل المزرعة ، وتتضعضع ادارتها ، وتصبح عاجزة عن حماية ذاتها ،كن انت اول استشهادي يذود عن حماها ،فالموت من اجل المثل العليا اسهل من الحياة مع العقل الناقد الحر ،الاخير يعلمك النهوض والحياة بحرية ،والاول يريدك ان تموت على يقين فهو حريص على اخرتك لا على حياتك .انه يريد ادخالك الجنة بشروطه ،اما الاسئلة المحرجة التي تقف عند ابواب التفكير كما يقول ريكور فهي مؤجلة عند هذا الصنف من القراء ،او انها مكبوتة ، بل قد لايفكر بها مطلقا ،السؤال بداية المعرفة ،واعادة التذكير بالاسئلة وفق منظورات جديدة معرفة مستأنفة متجددة ،هو لاوقت لديه لهذا النمط من الاسئلة والاجوبة ،انه مكلف باداء دوره في مزرعة الحيوان الكبرى ولاشيء اكثر.


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.