المسلة

المسلة الحدث كما حدث

الحسين صانع التواريخ ومؤسس فقه الاعتراض والاصلاح

31 يوليو، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

ابراهيم العبادي
خمسة عشر قرنا مرت على حادثة الطف ،ومايزال الزمن الاسلامي متوقفا عند لحظة الاستشهاد المهيب لسبط الرسول الاعظم واهل بيته وانصاره عام 61 هجرية ، مازالت الذكرى حية شاخصة بتفاصيلها الكبيرة واحداثها المهولة ، تاخذ الانفاس وتجرح القلوب وتجلدالتاريخ ،لقد صنعت كربلاء تاريخها الخاص ،بل انها شيدت تاريخا موازيا وهوية سياسية واجتماعية متفردة لاتأتلف مع فقه الطاعة السلطاني ولاتنسجم مع بنية الاستبداد السلطوي ، صحيح ان الناس ذهبوا فيها مذاهب واتجاهات ،لكنهم مضطرون كلما اختلفوا الى العودة الى الجذور ،الى لحظة التأسيس الاولى ،لحظة الرفض للواقع القائم ، لاستبيان المشروعية والاستدلال على حقانية المعارضة كلما شعرت امة ان حقوقها تغمط وفيئها يذهب اثرة بين الاقوياء ،نعم شطرت كربلاء تاريخ الاسلام ،واسست لفقه جديد ،فقه الخروج وافتتحت سجلا لفكر الاصلاح والحقوق ليصبح ثقافة اجيال ظلت تصدح بقداسة مشروع الاصلاح وأولويته كلما انحرفت سلطة عن جادة القانون والمباديء العامة ، تلك المباديء التي يتحدث عنها كتاب الاسلام في ايات بينات محكمات ((ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربيى ،وينهى عن الفحشاء والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )). النحل 90، ((لكي لايكون دولة بين الاغنياء )). ((واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل )).

صارت الدعوة الى الاصلاح قرينة القرون ،فما ان يجنح الحكم الى البغي والعدوان حتى يجد له فئة تذكره بيوم كربلاء بدعوة مشروعة (لم اخرج اشرا ولا بطرا ولاظالما ولامفسدا ،انما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي ) ،وظلت ريح كربلاء تعصف بالطغاة والظالمين ،وتمد الضعفاء والمستضعفين بقوةالارادة وتفاؤل النفوس رغم تشاؤم العقول وانسداد الافاق.

كان الاصلاح هدفا لخروج الحسين وصحبه ،ولما اجهض هذا الاصلاح بقتل النفوس الرائدة الساعية الى الاصلاح ،انكسر التاريخ انكساره الكبير وبقيت مباديء الاصلاح ممتدة على جبين الزمن السياسي تحفر في وعي الاجيال ،لا حياة مع الطغيان ،ولا نماء من دون عدل ولا دولة بلا حقوق ،ولا سلطنة بلا مشروعية ،وهكذا تولد منذ تلك الظهيرة الدامية وعي جبار عنيد ،يؤسس للامل ويحفر لغد أجمل.

كانت مشكلة المسلمين الكبرى وماتزال في الفقه السياسي ،فقه الدولة ،فقه الحقوق والواجبات بين الحاكم والمحكوم ،ولما لم يتطور هذا الفقه ذاتيا ،ذهبت الناس تستعير نماذجها السلطوية من التجارب البشرية الناجحة وراحت تتعلم من الاخرين مباديء الحكم العادل والسلوك السياسي النزيه ،غير ان عالم المسلمين ظل حائرا بين نموذجين ،نموذجهم التاريخي ذي الجذور الدينية بكل مافيه من صفحات قليلة مشرقة وكثيرة مظلمة ، ونموذج الاخرين الداعي الى الفصل بين مجالي الدين والسياسة ،وترك السياسة لاهل الخبرة في علوم الادارة والتخطيط والتفاوض والقيادة ، بتفويض من العامة وتوكيل من الجمهور ،ولحد الساعة لم يهتد اهل الحل والعقد في بلداننا الى نموذج للحكم يجمع الناس على اهداف عامة ويحقق لهم مايرتضون ،بل ان الفشل كان قرين العقود الطوال التي مرت ، وصار فينا من يدعو الى المستبد العادل ليجمع طرفي نقيض من فرط الاخفاق المتكرر والفشل المستدام في بناء دولة العدل والحرية والحقوق والمثل العليا .

ومع كل تجربة تخفق ،تستعاد كربلاء مجددا برسالتها السياسية وفكرها الاصلاحي ضد الذين (اتخذوا عباد الله خولا وماله دولا ) ويدور التاريخ دورته الاولى بين معارضة وحكومة كل منها يدعي الحقانية والصواب ،الا ان منهج الحق كان لصيق العدل والانصاف والمشاركة والمشورة ،فما من حكم اتسم باقل القليل من هذه المواصفات الا وخرج عن نطاق فقه الخروج والمعارضة الى فقه المداراة والمناصحة ،وكان ذلك هو التوازن الحق وتوكيدا لمناسبات الحكم والموضوع ،فليس الخروج سمة عامة ولا المصانعة والسكوت استثناء نادرا ،بيد ان فقه الاحكام السلطانية نسي او تناسى حقوق الناس واهتم بحقوق الحاكم خضوعا واعتذارا ، خشية وقوع الفتن وضياع معاش الناس وحظوظهم من الامن الضروري،حتى تخلقت الناس باخلاق الهارب من كل سلطة ، المتفلت من كل قانون المضطجر من كل مقصد من مقاصد الشريعة ،فغدت بعض شعوبنا كالبراكين ،ما ان تهدأ لها ثورة حتى تعود الى هيجان ،وفي كل مرة يحضر شعار العدل والانصاف ثم يتصاعد الى (لا حكم الا لله )، فيما ان معاش الناس وامنهم لايستقيم الا بضرورة وجود الدولة والدولة التي نقصدها في قاموس اليوم هي حكومة الحاكم الذي ينوب عن الناس ويحكم بتفويضهم .

لقد علمت كربلاء الناس الموت من اجل العدل والحرية والكرامة والحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف ،وبقي على الناس ان يتعلموا فقه المصانعة والمدارة والمقاصد الشرعية والسياسية ،فليست الثورة ملاكا عاما لكل ظرف وزمان ولا القعود معيارا ثابتا لمنع الانزلاق الى الفوضى ،بل الوسطية والاعتدال اللازمين لبناء الاوطان وصيانة حقوق الانسان .

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.