المسلة

المسلة الحدث كما حدث

كركوكيات

كركوكيات

7 سبتمبر، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

محمد زكي ابراهيـم

ما حدث في كركوك في الأيام الأولى من هذا الشهر (أيلول 2023) أمر عادي جداً، وليس فيه أي غرابة. وهو قابل للتكرار كلما لاح في الأفق ما يشير إلى تحول في السياسة الداخلية أو الخارجية للعراق. أي أن الوضع في هذه المدينة لا يوحي بالاطمئنان التام في أي وقت.

وفي البدء لا بد من معرفة ما جرى باختصار، رغم أن الروايات اختلفت في التفاصيل. فقد كان تخفيض عدد الوحدات العسكرية في المحافظة، في شهر مايس الماضي، ونقل إحدى الفرق إلى بغداد وميسان، بمثابة مؤشر على الهدوء الذي نعمت به لسنوات ست. وربما كان هذا هو السبب الذي دفع برئيس الوزراء السوداني، بمشورة من بعض مساعديه، إلى حل مقر العمليات المشتركة المتقدم، والسماح بعودة البيشمركة للمكان. ولا أظن أن القصد هو المبنى كما أشاع البعض، بل الانتشار في عموم المحافظة. ولأن الأهلين يحملون ذكريات مرة عن تواجد هذه القوات قبل عام 2017، فقد رفضوا هذا القرار، وخرجوا للشوارع غاضبين ومحتجين . وهؤلاء بالطبع من العرب والتركمان. ولم يلبث (اخوتهم) الكرد أن خرجوا أيضاً. ولكن للهجوم على المتظاهرين هذه المرة.

وحينما شعرت الحكومة بحراجة الموقف، أمرت بتأجيل تنفيذ القرار. وهو تعبير ناعم ومرن. وكان أن زادت الأمور تعقيداً. فقد بات الكرد يشعرون بالهزيمة في هذا النزاع القديم – الجديد. وسرعان ما خفت وحدات جديدة من القوات الأمنية المرابطة في العاصمة لتدارك الموقف، وإعادة الاستقرار للمدينة. ثم أعقب ذلك قرار من المحكمة الاتحادية برفض إخلاء المقر أو عودة البيشمركة. أي نقض قرار مجلس الوزراء جملة وتفصيلاً.

ولا شك أن إرسال قوات جديدة من العاصمة بعد اندلاع النزاع، يعني أن هناك نقصاً كبيراً في القوات الأمنية المرابطة في كركوك. وأن سحب فرقة أو فرقتين من الجيش أو الشرطة الاتحادية منها، لم يكن قراراً مدروساً. ولم تكن كركوك تخلو في يوم من الأيام من قوة ضاربة، وقاعدة جوية، ووحدات رديفة، لأنها كانت الضامن الحقيقي للسلم الأهلي فيها.

وقد بت أعتقد أن هذه المحافظة التي كان أبناؤها في السبعينات والثمانينات يتحدثون لغات ثلاثاً، وأحياناً أربع، ولا يجدون غضاضة في أن يعيشوا جنباً إلى جنب، ويتعاملوا بمودة، كانت تنعم بالسلام بسبب وجود هذه القطعات العسكرية. وقد أثبتت هذه الحادثة التي جرى تطويقها خلال أيام قليلة أنها تجربة جديرة بالتأمل، ويجب أن تستخرج منها عبر كثيرة. وأهمها على الإطلاق أن الترسانة العسكرية التي تضم أفراداً من مختلف المحافظات، يجب أن تكون مرابطة على الدوام في المعسكرات التابعة لها في أطراف المدينة، ويوطن أفرادها في حي خاص، مثلما كانت عليه الحال في الماضي. وقد وجدنا كيف استغل محافظها السابق نجم الدين كريم انشغال الحكومة في صد هجمة الوهابية الثانية ليقوم بإعلان ضم المحافظة للإقليم الكردي، ورفع علمه على المباني الرسمية. ولو كانت كركوك في ذلك الحين تحوي قطعات مؤهلة تأهيلاً جيداً لما جرؤ على مثل هذا الفعل القبيح. ولحسن الحظ، فإن هذا التمرد لم يكن وقحاً فحسب، بل غبياً بامتياز. إذ لم يحسب للقوات الصاعدة الجديدة التي دحرت قوى السلفيين، وحررت المدن، وأعادت هيبة الدولة من جديد، حساباً.

ثمة عامل آخر، سيحفظ لكركوك هويتها العراقية، مثلما فعل طوال هذه السنين، وهو اللغة. وربما كانت التجربة الهندية مثالاً جديراً بالاعتبار. فقد حفظت الانكليزية للهند وحدتها وتماسكها، بعد الاستقلال عام 1947،على الرغم من وجود عشرات اللغات الفرعية فيها، وبعضها لغات مليونية يتحدث بها مئات الملايين من البشر، ولم يحتج أحد بأنها لغة المستعمر. بل أنها فتحت الأبواب للهنود للتواصل والدراسة والعمل في شتى بقاع المعمورة. ولأن العربية هي لغة السواد الأعظم من العراقيين، فإنها هي دون غيرها التي تضمن السلم الأهلي في كركوك. ويجب أن تكون لغة الإدارة والتعليم والدراسة والإعلام والاقتصاد، وليس من الصحيح إطلاق العنان للأقليات بالتطاول على اللغة الأم. فلذلك نتيجة واحدة لا غير: هي الانفصال.

إن الذكرى تعود بي إلى تلك الحقبة، ونحن في أول سني الشباب، حينما كنا نعيش هناك. فلم نلمس أي احتكاك أو تدافع بين المكونات الثلاث أو الأربع، إذا ما أضفنا المجموعة الآثورية، التي باتت تدعى الآن الآشورية. وكان العرب يعيشون في بعض الأقضية والنواحي، ويمارسون مهنة الزراعة، عدا عن تجمعات متناثرة في مركز المدينة. قبل أن يتعزز وجودهم هناك بالمهاجرين من المحافظات الجنوبية. وتظهر للوجود أحياء واسعة وجميلة .

ولا شك أن من مصلحة العرب والكرد والتركمان أن يعم الأمن ربوع المدينة، فلا تتعرض لهزات مثل هذه. ولا يسمح للقوى الانفصالية بالعودة إليها مرة أخرى. لأن وجودها هناك يعني تمزيق النسيج الاجتماعي المتآلف والمترابط والمتجانس. وهذا أمر لا يمكن السماح به بأي حال من الأحوال.


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.