بغداد/المسلة:
ابراهيم العبادي
كل مراجعة سياسية تقف خلفها مراجعة معرفية ،لاتكف معارف الانسان عن النماء والتطور اذا ماجعل افقه مفتوحا وعقله ناقدا ،تتراكم الاسئلة بشان الحياة ومشكلاتها ،وتتصارع القيم والاخلاقيات ،وتتعدد مدارس التفكير والتفسير والتنظير ،مثلما تتزايد احتياجات البشر وتتعدد مسارات الادارة والتنمية وطرائق تيسير الحياة وتحسين جودتها ،الحضارات تفاعلت وتتفاعل، وتجارب الانسان تتكامل على مر الازمنة، فلاشيء يبقى على حاله ماخلا العقائد الدينية الاساسية ومنظوماتها التشريعية واخلاقياتها وقيمها ،وقد وضع العلماء قواعد ومناهج للتفسير والتأويل ،وتواصلت الابداعات الفكرية والفلسفية والعلمية والتقنية ،ومع كل جديد يضاف الى معارف البشرية تستجد قيم وحاجات ويجد الانسان نفسه مابين حاجة الى المعنى ،وحاجة الى المبنى ، ولذلك تتجدد الافكار والنظريات وتتراكم حلول وتستجد رؤى ،ويكتشف الناس ان شوط المعارف لايكف عن التكامل ،وان علوم الانسان تنمو في اكتشاف تفاصيل تفاصيل الحياة ،ومازال المجهول كثيرا والبحث عن الحياة الرغيدة والرفاه الكامل بعيدا.
في سعي الانسان الى تشييد النظم السياسية والاقتصادية الملائمة لحاجاته والمستجيبة لطموحاته وغاياته ،يقف العالم على خيارات متعددة ،بعضها وضعها بنفسه وبحدود ماابدعه عقله ،وبعضها الاخر ينتسب الى منظوماته العقدية والدينية ،مابين الاثنين صراع لم يتوقف ،فملل الانسان من هيمنة فكر ديني تقليدي بعينه ،يراه معيقا وجامدا ومتصلبا ،يتوازى مع وضعية تحاول تجديد قوتها واختبار فرضياتها ،والنظر في مصالح الانسان ،ولكن اي انسان ،انه انسان البعد الواحد كما سماه هربرت ماركيوزة عام 1964، احد فلاسفة مدرسة فرانكفورت الالمانية ،هذه المدرسة التي تبنت العقلانية النقدية وسعت الى تحرير الانسان من السلطات القامعة له والايديولوجيات الشمولية التي جعلته اسيرا ،كل ذلك بغرض تخليص البشر من الشرور المتعددة التي تنتجها انظمة الحكم وادارة الاقتصاد وتنظيم المجتمعات ، وفق رؤى سلبت الانسان حريته واستقلاله وفرادته في هذا الكون.
ظلت اتجاهات مدرسة فرانكفورت تمثل صيحات معرفية وفلسفية في عالمنا المعاصر ،اثرت في المنتج المعرفي والتنظيري الغربي لكنها لم تنجح في تفكيك اليات السيطرة المتعددة التي صاغتها الحضارة المعاصرة ،فها هو الانسان يكابد الحروب والقمع وانتهاكات حقوقه الفردية والجمعية ويواجه مشكلات الطبيعة والتدمير المتسارع للنظام البيئي ،وتزداد قوى ومجتمعات غنى ورفاه على حساب فقر وتخلف مجتمعات اخرى بسبب انعدام العدالة والهيمنة .لكن الغرب يظل حيويا وفعالا ومنتجا ومبدعا ،ناقدا لنفسه من داخله ،وبفعل هذه الحيوية والحركة النقدية المستمرة استطاع البقاء في مقدمة قطار الحضارة البشرية يقودها بلا منازع ،صحيح انه ينتكس مرات ومرات اخلاقيا وقيميا وينهض مرة ،غير انه لايكف عن الابداع والتغيير والتجديد.
بموازاة ذلك اخفق الطريق الثالث الذي نادت به القوى الاسلامية منذ منتصف القرن الماضي وبشرت به نموذجا جديدا يستعيد الق نموذج ماضوي في تمثل القيم الدينية والاخلاقية القائمة على العدالة والمساواتية وتكريس المعنى في حياة الانسان من خلال منظور اسلامي للحياة يستمد قيمومته من فكرة الدين الخاتم.
قضت الحركات الاسلامية نصف قرن تبشر بافكارها وتكابد محن الصراع مع انظمة الحكم والتيارات الايديولوجية التي جعلتها خصما وعدوا لدودا ،وبدل ان ياتي الحل على يد القوى الاسلامية لمشكلات الحضارة ومنتجاتها السياسة والاقتصادية والثقافية ،وجدنا مجتمعاتنا تدخل في صراعات دامية مدمرة ،بدل ان تجرب فكر التعايش والمهادنة والسلمية والاقناعية ،صار الصراع قيمة بحد ذاته ، وصار التثقيف يتمحور حول فكرة مركزية :يجب ان تدافع عن فكرك ووجودك وقيمك التي لخصها شعار الاسلام هو الحل ، او تدمرك اليات الخصوم بكل ما أوتوا من قوة.
بين الرؤيتين المتقابلتين انطبعت ايامنا بفكر شمولي واخر لايقل شمولية ،كل جبهة تدعي ان الاخرى خطر على الانسان وحضارته ومدنيته وحريته ،ودخلنا في خصومة افقرت الشعوب وادمت حياتها وخربت استقرارها ونماءها ،ومازالت طبول الحرب تقرع ،من المغرب غربا الى اندونيسيا شرقا ،لنلاحظ ان قلب العالم الاسلامي مازال ينزف ، ومازال هدر الموارد والطاقات على اشده ،وتستمر التعبئة والاجهاد النفسي والعصبي والمادي في اعلى مستوياته ،دول تنهار واقتصادات تفلس ،ومخيمات النزوح والهجرة تتسع ،والانسان يتعذب ويشقى ،كل ذلك لان قادة الصراع مقتنعون بفافكارهم وشعاراتهم ،لا احد يريد اخذ استراحة محارب ليفكر بهدوء ، ماذا انجز ؟واين اخطا؟ ولماذا انساننا يزداد عذابا وشقاء ،؟متى تنعم مجتمعاتنا بالهدوء والاستقرار والتنمية والازدهار ؟
هل كتب علينا القتال الدائم ؟ومن اجل من ؟ ولفائدة من ؟
هل فعلا ان الدين في خطر واستقلالنا مصادر ،ام اننا لانريد ان نغادر فكرة وخطاب الصراع والمؤامرات ، بدعوى ان الاخرين لايكفون عن الكيد لنا وتخريب اخلاقنا وقيمنا ؟
كيف نقدم الاسلام دينا للسلام حتى لو كان دين الاخرين القتل والقتال ، فيما يستمر الكثير منا ينظر الى العالم من ثقب صغير وثنائيات لاتقبل التاويل ؟ لماذا لم ننجح في بناء نموذجنا العتيد ؟ هل صحيح ان الاخر لايسمح لنا بذلك ؟ ام ان العوائق ذاتية وليست كلها خارجية ؟ هذه اسئلة تحتاج الى اجابات جادة ومقنعة ،معرفية وليست ايديولوجية ،تفكيكية وليست بغرض الدفاع وصياغة خطاب الرفض والمقاومة والقمع لكل تساؤل جاد.
جواب الاسئلة الانفة سيكون مراجعة ذات اهمية فائقة لانها ستحدد الخيارات القادمة وقد تسهم في تغليب وعي جديد على انقاض المأساة الكبرى فما لم ينقد الوعي السائد لن ينقشع الظلام.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
حماية العراق واجب أمريكي: الاتفاقيات الأمنية ليست حبراً على ورق
إيران ترد على قرار الوكالة الذرية بأجهزة طرد مركزي متطورة
زعماء الوسطية.. هل قادرون على توجيه السكة على مفترق طرق إقليمي؟