بغداد/المسلة الحدث:
نوري المالكي
یشکل الخطاب السیاسي أبرز عناصر العملیة السیاسیة التي تلخص نظرية الثورة والدولة والحراك والحزب والقائد، وتوجهاتهم وأهدافهم التي یعملون على تحقيقها. ويجتهد أصحاب الخطاب لانجاحه وتهذيبه من العیوب واللاواقعیة، ويدرسون مدی انسجامه مع طبيعة حیاة الأمة ومرتکزاتها العقدية ومبادئها، وآمالها وآلامها. وحينها تکون القيادة والجماعة والثورة والحركة والدولة قد وضعت جماهیرها في الخط الصحیح، وحرّکتهم في الاتجاه السلیم، ولا یبق بینهم وبین تحقيق الأهداف إلّا الزمن، عبر الثبات على استمرار الحرکة والاستقامة علی الخط.
وفي الحدیث عن الخطاب الذي عبر به الإمام الخمیني (رض) وشعبه الی ضفّة الانتصار الإسلامي الفرید في القرن العشرین، یمکننا أن نكتشف تجربة نادرة ورائدة في إثارة مضامین وشعارات وأفکار تضمنتها عشرات البيانات والكلمات في مختلف المناسبات.
وقبل الخوض في مفردات خطاب الإمام (رض)، نشیر إلی حقیقة تُسجّل باعتزاز للامام، وهي قدرته على منح خطابه، الواقعیة المیدانیة في مرحلة تعبئة الشعب الإیراني خلال حراك الثورة، وتصعید روح المواجهة مع العدو المدجج بالسلاح والقوة والدعم الخارجي. وعندما انتقل إلی الدولة عبر جسر الثورة وشعاراتها، راهن کثیر من المراقبین في العالم علی فشل الإمام في استحداث خطاب جديد للدولة، والقدرة على تجاوز خطاب الثورة، الذي یختلف في کثیر من معالمه، التي تمیز بین أماني الثورة وواقعية الدولة. إلّا أن الإمام اثبت قدرة عظيمة علی استحداث الخطاب المنسجم مع خط الدولة ذات المؤسسات الثوریة، حتى أنه حافظ علی نهجه الثوري من خلال مفردات الدولة، ولم یجهد الدولة باستصحاب ذات الشعارات التي کانت تحتاجها الثورة وهي في ساحة المواجهة؛ بالنظر الى حاجة الدولة إلی خطاب سیاسي مبدئي وواقعي، قادر علی ضبط الانتقال الانسيابي من مرحلة الثورة الى مرحلة الدولة، مع المحافظة على الثوابت العقدية والقیم السامیة والأهداف الکبری.
لقد عُرف الإمام الخمیني (رض) بجدیته المبکرة، وقدرته على استقطاب الأمة والتأثير في وعيها، واهتمامه بفئة الشباب والنساء، ودفعهم لوعي محیطهم ومشاكل مجتمعهم، واستطاع أن یکشف خصائص شعبه في عطاءاته ونجاحاته، وفي نهوضه ونکوصه، کما اکتشف خصائص دولة الشاه ومرتکزاتها ومثالبها، ونقاط الضعف والقوة فیها؛ فجاء خطابه المبکر وحرکته وفق نسق واحد، یؤکد صحة تشخیصه، ووعیه بما حوله من أحداث وملابسات؛ فکانت حرکته مدروسة بعناية، وتتصاعد بتدرج وتنسيق وانسيابية. وحين حدثت انتفاضة العام 1963، وإقدام نظام الشاه على نفي الإمام الى خارج إیران، لیستقر في النجف الأشرف؛ فإنه استانف حراكه، ليبدأ من حيث انتهى، ولم یبدأ من الصفر، بل أضاف عناصر جديدة للحراك منحتها له الانتفاضة. وهنا برزت خاصیة أخرى لخطاب الإمام، تتمثل في عدم انه انطوائه علی ثغرة قاتلة أو تخلف عن الضرورة أو تعجيل غير واقعي؛ فکان بحق یمثل عنفوان الثورة وتماسك مفاصلها في خط تصاعدي دقيق، أغلق الباب أمام أفکار الضعف والتخاذل والانهزامیة، وكذلك أفكار التطرف والتهور.
خصائص خطاب الإمام الخميني
من منطلق المدخل المذكور؛ یمکننا تسجيل أهم خصائص الخطاب السیاسي الثوري للإمام، من خلال قراءة سریعة لنماذج من بياناته وكلماته وتوجيهاته:
1- التعبوية:
خطاب الإمام الخميني خطاب تعبوي، یستبطن إشعار الأمة بأنها أمام معرکة، فصولها ممتدة ومتصلة الى عمق التاريخ الإسلامي ومسيرة مدرسة أهل البيت، ویحشِّدها لخوض المعركة وفق المعاییر التي خاض السلف الصالح ثوراتهم وانتفاضاتهم على أساسها، لتشعر الأمة أنها الامتداد الحقيقي والواقعي للخط المتصل بالحق المطلق، ومن ذلك ربط الأمة بنهضة الإمام الحسین (ع)، بوصفها خیر مناسبة للتعبئة تحت شعار ((کل أرض کربلاء وکل یوم عاشوراء))(1). وظل خطابه التعبوي بالسهل الممتنع، لأنه سهل في مفرداته، ولا یصعب علی العامل والفلاح والشاب فهمه والتفاعل معه، کما یتفاعل معه المثقف بنفس الدرجة، وهو خطاب ممتنع أيضاً، لأنه ینم عن عمق وحنکة وخبرة وکفاءة، ولايمكن مجاراته فیها بسهولة، إلّا ممن امتلك القدرات الفكرية والعقلية.
2- الجماهيرية:
وهو خطاب جماهیري في نصوصه ومضامینه، وليس خطاباً نخبوياً خاصاً، أي أنه یحاکي قضایا الشعب بمختلف طبقاته، ویناقش شؤونه واحتیاجاته ومشاكله، حتی بات کل ایراني، بل وکل مسلم، یشعر وکأنّ خطاب الإمام یعنیه، ویحثه على العمل، ویجنِّده للجهاد في خط الإسلام، ونموذج على ذلك نداءه الجماهیری العام: ((أیها المسلمون المؤمنون بحقیقة الإسلام؛ انهضوا ووحدوا صفوفکم تحت رایة التوحید، وفي ظل تعالیم الإسلام، واقطعوا أیدي القوی الکبری الخائنة عن بلدانکم وثرواتکم الوفیرة، وأعیدوا مجد الإسلام، وتجنّبوا الاختلافات والأهواء النفسیة؛ فانکم تملکون کل شيء(2). ويستحق هذا النص لوحده دراسة واسعة ومرکزة، بالنظر لأهميته، ولكن نكتفي بالقول أنه شديد الوضوح في مخاطبته کل جماهیر المسلمین، المثقفین منهم وغیر المثقفون، وتناوله القضايا المشتركة التي تدخل في صلب اهتماماتهم، وتمثل حاجاتهم الماسة.
3- الصدق والصراحة:
ويتميز بأنه خطاب صادق وصريح، خلافاً للخطاب المراوغ للحكام في تعاملهم مع شعوبهم ومع الدول الأُخر؛ فقد کان الإمام (رض) صادقاً وصریحاً وواضحاً وشجاعاً، لاتأخذه في الله لومة لائم، وکان مرآةً حقیقةً تعکس الواقع؛ ما يدفع المسؤولين والناس الى أن یهرعوا الیه عندما يختلفوا أو تلتبس علیهم الأمور، وکانت صراحته سیفاً قاطعاً، لا یجامل أحداً ولا یتعامل بعواطف مع أحد؛ فهو لسان ناطق بالحقیقة لشعبه، یقولها دون مراوغة ومواربة وزيف، ویتقبّلها منه الناس، ویندفعون معه نحو تشخیص العلاج، وتصحيح المسار، لأنهم تعوّدا صدقه وصراحته وأمانته، ولم یشعروا يوماً بوجود شيء مخفي مخیف، ولا ضبابیة في الموقف تبعث تلقائياً علی التلکؤ وعدم التفاعل معه.
4- الشجاعة:
وهو خطاب شجاع؛ فقد عبّر عنها بنفسه (رض) بقوله: ((لم یدخل الخوف في قلبي قط))(3) . وقد لفتت شجاعته انتباه کل من رافقه في طائرة العودة الی ایران، حين كان نظام الشاه يهدد بقصف الطائرة وإسقاطها، وما رافقها من احتمالات قد تودی بحیاته الشریفة؛ فلم یلمسوا زیادة في ضربات القلب، وکان نومه هادئاً مطمئناً علی متن طائرة الموت المرتقب. وفي موازاة ذلك؛ لم ترهبه قوة النظام البهلوی، وكل من یقف خلفه ويدعمه، ولم یدع مناسبة إلّا أثار الغبار بوجهه، وفتح عیون الشعب الایراني علی حقیقة النظام الفاسدة، ولم يثنه عن الثبات في المواجهة؛ تهديدات النفي والسجن والاعدام، وبقدر ما انطوى جنبیه على نفس عطوفة؛ فإنه کان صلباً شجاعاً في حمایة الثورة واستمرارها، حتی النجاح والنصر، أو الشهادة. ولما أخبره بعض قادة الثورة في الداخل، وكان في حینها في فرنسا، بضرورة إیقاف التظاهرات بعد إعلان نظام الشاه حظر التجوال المشدد والتهديد بمجازر ضد المتظاهرين، وما رافق ذلك من تراجع همة بعض المراجع والعلماء، واکتفوا بشعارات الاصلاحات الجزئیة والمطالب المحدودة، لیخرجوا أنفسهم من المأزق؛ فإن الإمام الخميني (رض) ظل مصراً علی رفض کل المساومات والاصلاحات، ومصمماً علی أن الهدف النهائي هو إسقاط النظام الشاهنشاهي، وإقامة حکم الله تحت عنوان الجمهورية الإسلامية، بدعم الشعب ورضاه.
5- الشمولية وسعة الأفق:
لم یختنق خطاب الإمام (رض) في حدود القضیة الإیرانية أو الشأن الإيراني، ولم تنسه کل ما كان يواجهه من تحديات، أن یشمل خطابه قضایا کل المسلمین، کما لم یکن خطابه لشریحة محدودة ووفق مستوی خطابي محدد، لأنه كان يؤمن بوحدة ساحات المسلمين ووحدة الهموم والمشاكل، وتلک خاصیة مهمة تتناسب مع رجل صاحب آفاق واسعة، ومسؤولیات بحجم المآسي التي یمر بها المسلمون في مختلف بقاع العالم، وقد أبقت هذه الشمولیة الباب مشرعاً أمامه (رض) في تعميق أواصر العلاقة مع الشعوب الإسلامیة، التي فتحت قلبها لکلامه، عندما رأت فيه الاخلاص والمواساة الحقيقية والحرقة والشعور بالمسؤولیة تجاه قضایاهم. ومن نماذج هذه الشمولیة قوله: ((إن مشکلة المسلمین لیست مشکلة القدس فحسب؛ فهي واحدة من مشاکل المسلمین. ألیست أفغانستان من مشاکل المسلمین؟! ألیست ترکیا من مشاکل المسلمین؟!. ینبغي أن نفکر بدقة في جذور هذه المشاکل التي تعم المسلمین ونجد لها الحلول اللازمة))(4). وفي بيان آخر قال (رض): ((واعلموا أننا لسنا في حرب مع العراق، بل أن شعب العراق یساند ثورتنا الإسلامیة، نحن في صراع مع أمیرکا، والیوم فإنّ ید أمريکا تجسّدت في حکومة العراق))(5).
6- تحطیم حاجز الخوف:
يخلق حاجز الخوف عوارض سلبية كثيرة، أهمها الصمت والتردد والانهزام والشلل في التفكير والحركة؛ فحين كان حاجز الخوف يسیطر علی الشعب، وكذلك على النخب، ومنها الحوزة العلمیة؛ فإن الإمام (رض) بذل كل ما في وسعه لکسر هذا الحاجز الذي صنعه القمع والإرهاب، لأنه كان یدرك أن أمثال هذه الحاجز وأعراضه، مهما کانت صلبة وسمیکة؛ فإن الواجب هو العمل علی تحطیمها وکسرها، لأنها تعيق الحرکة وتقتلها، ولا یمکن أن تنهض بمهامها والشعب صامت، ونخبه خائفة أو مهزومة أو مشلولة؛ فكانت كلماته وبياناته ومواقفه، تدفع الشعب ونخبه الى الجرأة على التفكير وعلى الحركة وعلى تحدي السلطة.
ولم ينفد صبره يوماً وهو يكرر النداءات والبيانات، والتي كان بعضها يحتوي على كلمات التقريع والاستفزاز؛ فإن الصبر والإصرار والتکرار الذي عرف به خطاب الإمام، تمكن من تفكيك عقد الخوف، فضلاً عن تحطيم اعراضه، كالصمت والتردد والانهزام والشلل. یقول (رض) مخاطباً شعبه وشعوب العالم الإسلامي: ((ما أرید التأکید علیه، هو أن تُخرجوا من رؤوسکم ما یقال من أنه لا یمکن مواجهة الدول الکبری، قرروا علی ذلك وستقدرون، لأن الله یدعمکم ویحمیکم. إن الهمسات التي تشاع من قبل عملاء الاستعمار من أنه لا یمکنکم الحیاة دون اللجوء الی إحدی الدول العظمی؛ کلها خطأ مئة بالمئة، وغیر صحیحة. قفوا علی أرجلکم باستحکام وقوة، وکونوا مع الله، واسعوا قبل کل شیء الی الرقي في الانسانیة، عندها یمدنا الله بعونه))(6).
7- الأصالة والتجديد:
جمع خطاب الإمام الخميني بین الأصالة في الثوابت والمبادئ والمنهج، والتجدید في الأسلوب والوسائل، بما ينسجم مع طبيعة المرحلة، وهي خصوصية یصعب الجمع بين طرفیها، ولطالما سقط القادة السیاسیون في أحد طرفي المعادلة؛ فکان بعضهم صورة للماضي في الشکل والمضمون العملي، وكان آخرون لصيقين بمظاهر العصر، مع کامل الانقطاع عن الماضي، بما یمثله من ثوابت وزخم روحي ودافع معنوي لقوة الحراك العصري واستمراره؛ فلا یکون المنهج مختلفاً متحجراً جامداً علی عطاءات الماضي وموروثاته التي یتجاوز الواقع بعض متغيراتها، ولا منبهراً بمظاهر العصر فيقطع صلته بعمقه التراثي، ویلهث خلف الأفکار الوافدة والنظریات التي لا تنسجم مع ثوابت الإسلام، بحجة اللحاق بالعصر والتقدم.
لقد كان الإمام الخمیني مرجعاً علی النمط التقلیدي للمرجعیة، في دراسته وتدريسه واجتهاده وآرائه الكلامية والفقهية، وكذلك في آلیة طرح مرجعيته، وكان متمسكاً بنهج السلف الصالح في هذا الإطار، وکان یؤکد علی الفقه والعلوم التي ورثتها الحوزة العلمیة عن فحول مذهب أهل البیت (ع)، كالجواهري والأنصاري، وقبلهم المفيد والطوسي والحلي(7)، ولکن لم تمنعه هذه النمطیة الحوزویة من التطلع نحو التجدید في موقع المرجعیة وأدوارها ومهامها، وإحیاء الجوانب التي تم تعطيلها بسبب الظروف والمناهج التي تنطوي على بعض الجمود. ولعل أبرز ما ضخّه الإمام الخميمي من دماء جديدة في عروق المرجعیة والحوزة، أنه أدخلها في خضم الصراع النهضوي والسیاسي، بعد أن کانت الرؤية السائدة تعدّ السیاسة منافية للقیم الإسلامية والأخلاق، بل دفع الإمام الخميني بأغلب الوسط الحوزوي نحو دعم إقامة الحکومة الإسلامیة، التي اعتبرها من أوجب الواجبات، لأن الواجبات الدینیة الأخری تصان بها.
كما ذهب الى أبعد من ذلك؛ عندما دعم العمل التنظيمي الحرکي الإسلامي کأٌسلوب من أسالیب التعبئة والاعداد لکوادر المجتمع الإسلامي، بالشكل الذي يمكّن التنظيم من كسب الشارع وفرض إرادته في ساحة المواجهة مع التيارات المنحرفة. وكان نموذج ذلك؛ دعمه تأسيس حزب الجمهورية الإسلامية وعمله؛ فالحزب كان صیغة في الإسم والمضمون، يعتبرها أغلب الوسط الحوزوي منافیة للإسلام، لأنها صیغة غربیة مستوردة. ولم يكن خافياً علی أحد رعایة الإمام (رض) للحزب ودفاعه عنه وعن قياداته؛ فقد كان مؤسسوه وقادته من أبرز تلامیذ الإمام، كأمينه العام الأول السید الشهید محمد بهشتي، ثم أمينه العام الثاني السید علي الخامنئي، إضافة الى الشیخ هاشمي رفسنجاني والشيخ الشهيد محمد جواد باهنر. وكان الشهيد بهشتي یكرر مقولته الجريئة: ((الحزب معبدي))(8)، وهي مقولة لم يكن يستوعبها كثير من التقلیديين، والتي یقصد فيها أن الحزب آلیة ووسیلة من الوسائل العبادیة التي يتقرب بها الحزبي الإسلامي إلی الله، ومن خلالها يحقق مفهوم الطاعة والعبادة وتحكيم شريعة الإسلام.
كما أکد الإمام (رض) دعمه للصیغة الحزبیة الإسلامية العصرية عندما استقبل قیادة حزب الدعوة الإسلامیة، مخاطباً إیّاهم بضرورة بذل أقصی الجهود، وأن الوقت مناسب لتحرکهم، لأن الأمة أصبحت تنفتح علی العمل السیاسي والحزبي(9).
هذا الانفتاح علی العصر في الخطاب، منح برنامج الإمام قوةً في الحرکة وقدرةً في الاستیعاب ومرونة في التعامل مع التحدیات، وتطویع للعقبات، ضمن سیاسة الانفتاح علیها، والتدرج في معالجتها، واعتماد المناهج العلمیة في ملاحقة المفردات التي یمکن أن تشکِّل نمطاً من التحدي لخط الثورة والدولة.
ورغم صورة الصلابة والجدیة التي کان یرعب بها خصومه، فإن الإمام الخميني کان یختزن قدرة قوية في التعامل المرن مع التحدیات، وکأنّه يتمثل القول المأثور: ((لا تکن غضّاً فتعصر ولا یابساً فتکسر))، وهي المعادلة السیاسیة التي عمل بها طول فترة حیاته، ثم ترکها إرثاً قيمياً ومنهجاً قويماً لخلیفته والمتصدین لشؤون الدولة من بعده؛ فلم یکن غضاً لیناً في مواقفه السیاسیة، حتی لا یطمع عدو في النیل من إرادته، كما لم یکن یابساً صلباً فتکسره الأحداث التي ربما لا یستطیع مواجهتها في مقطع زمني معین، وکلا الموقفین عنده یدخلان في حسابات تشخیص المصلحة العلیا للأمة واستحقاقاتها؛ فإن کانت المصلحة تتسع للمرونة؛ فهو الموقف الشرعي عنده، وإن کانت تفرض الشدة والصلابة؛ فهو الموقف الذي لا یتراجع عنه. وفي هذا الإطار یرد شاهدان علی المرونة والشدة:
الأول: موقف المرونة، والذي عبّر عنه في موافقته علی وقف الحرب المفروضة علی الجمهوریة الإسلامیة من قبل النظام البعثي، وما کانت تفرضه هذه الموافقة من ضغط علی الأعصاب والنفس، لم یکن یتحملها کثیر من القادة في حروبهم، لأنها تعني في قوامیسهم الانهزام؛ فیعرِّضون شعوبهم وأوطانهم الی أشد البلاء والمحن والدمار، ولا یملکون الجرأة والشجاعة علی تعریض أنفسهم لتحمل المکروه، وحينها قال الإمام (رض) کلمته العظیمة ((تجرعت السم))(10)، وکان بإمکانه أن لا یتجرعه، ویدع ایران تواجه مؤامرات الاستکبار وأذنابه، ویدع الشعب الإیراني یغرق في بحر من الدمار والخراب.
الثاني: موقف الحزم، والذي تمثّل في فتواه الشهیرة بحق المرتد سلمان رشدي، التي أصرّ علیها رغم کل الضغوط الخارجية الشديدة، وثبت عليها، رغم کل التحدیات، حتى وضع المرتد والمؤامرة التي تقف خلفه في حرج شدید، وأحدث تعبئة إسلامیة عامة من خلال تجییش المشاعر الإسلامیة في الرد علی الإهانة التي تعرضت لها مقدسات المسلمین، وفي المقدمة رسول الله (ص). وبالفعل؛ صدرت مواقف وفتاوی من فقهاء آخرين بحق مرتدین أيضاً، بعد فتوی الإمام التي ضجّت في العالم. وهنا لا یمکننا القول أن هذه الفتاوى أوقفت الردة والاعتداء علی المقدسات الإسلامية، بقدر ما أعادت الثقة الى الأمة بنفسها، وحفّزتها لاتخاذ المواقف المناسبة من أي اعتداء مثيل، حتی لا یظل المسلمون مخدّرین لا یمتلکون القدرة علی رد الفعل الذي يستهدف مقدساتهم.
وفي جوانب أخری؛ ظل الإمام (رض) متمسكاً بکلام علي أمیر المؤمنین (ع): ((والله ما معاویة بأدهی مني، ولکنه یغدر ویفجر، ولولا کراهیة الغدر لکنت من أدهی الناس))(11)؛ فالغدر ليس متعذراً علی من یرید الغدر، ومن یرید التنکر للقیم والأخلاق في المیادین المختلفة، إلّا أنّ مدرسة آل البيت (ع) لا تمارس أي لون من ألوان الغدر، كما يمارسه نمط السياسيين المراوغين، لیس لأنهم يفتقدون المعرفة بذلك، إنّما لأنهم مدرسة العرفان الإلهي والأخلاق السامية التي يتميز بها أهل البیت (ع) ومن اختط خطهم. وهكذا کان بإمکان الإمام الخميني (رض) أن يتنازل قلیلاً بمقدار ما یرضي الاستکبار الغربي، لیأخذ الکثیر، وکان بإمکانه أن یسکت عن القلیل؛ فیتجنب الکثیر من التضحیات، لکنه کان ینطلق في خطاباته من شعور عظيم بالمسؤولیة تجاه تربیة الأمة على المواقف الصلبة، في الموضوعات التي تستدعي الصلابة والحزم والقوة، من أجل تغییر کثیر من معالم حیاتها التي ورثتها عن العهود السابقة، التي اختلطت فیها عامل الغدر بعامل الصفاء، والصحیح بالسقیم.
ومن هنا؛ فإن من یتصدی لمهمة التغییر وإصلاح النفوس، یکون في أقصی درجات الحاجة إلی الدقة والتثبت من مفردات کلامه وسلوکه، لأنه وضع نفسه في موضع القدوة والمثال الذي تأخذ عنه الأمة مواقفها وتتعلم منه، وهكذا لم یرد الإمام (رض) في خطابه أن یجعل الناس في حیرة بین ما یجب أخذه أو ما يجب ترکه، وبین ما هو مقبول وما هو مرفوض، لأن عامة الناس لا تمتلك القدرة علی الفرز، وعلى معرفة صحة الموقف من عدمه.
8- الوعي الستراتيجي بالصراع الحضاري:
لعل من أبرز الصفات التي تزیِّن کفاءة القائد، هو وعیه الدقیق بأبعاد الصراع الحضاري الشامل ومفرداته، والتي تشکِّل تحدیات في طریق الوصول الی الهدف، وتحت هذا العنوان تدخل جملة منها، أهمها: تشخيص خارطة الأعداء والأصدقاء والمحايدين، وأهداف ومصالح كل منهم، وتشخيص المصالح والمفاسد في العلاقة معهم، وطبیعة العدو وأهدافه وأسالیبه وآلیاته في إخضاع إرادة الطرف الآخر، ونقاط قوته وضعفه، والمنحدرات التي قد یصلها الصراع معه، من خلال الانتقال لمفردة صراعیة هنا وخلافیة هناك.
وينبغي أن ينعكس هذا الوعي على خطابه بوضوح، لكي تستلهم منه الأمة طريقها ونهجها. أما الجهل بهذه الخارطة وعناصرها وجزئياتها؛ فإنه يجعل القائد یسیر علی غیر هدی، ویتحرك دون وعي لما یجب أن یعمله أو یتحاشاه، وما یجب عمله في الحاضر والمستقبل.
وهذا الوعي العميق والشامل بخارطة التحالفات والصراعات، الذي تميّز به الإمام الخمیني (رض) خطابه، كان واضحاً في مرحلة مبکرة من عمره، وتعزز بمرور الأيام وتراكم الأحداث والوقائع. وانطلاقاً منه، كان الإمام يدعو بإصرار وبشكل مكرر الى وجوب حمایة الإسلام من الإستکبار، وحمایة المسلمین من نهبه وجشعه، وقد امتلك درجة متقدمة من الوعي السیاسي والانفتاح علی مفردات الصراع في عمقها الاستراتیجي، ولم یتوقف عند ظواهر الصراع القشریة، إنما أعاد المعرکة الی مناصبها وجذورها، مستخدماً جملة شعارات أحیا بها أصول المعرکة التي عبّر عنها القرآن الکریم بالصراع بین المستکبرین والمستضعفین. کما نجح في تعبئة کل الموروث الإسلامي، علی مستوی المفهوم والتاریخ والممارسة، لصالح عملیة المواجهة؛ وعیاً منه بخطورة الهجمة الاستکباریة وحجم المعرکة معه وأبعادها، وهنا لم یقف الإمام عند حدود مفردات القوة في الموروث التاریخي الشرعي في الاندفاع، بقوةٍ تغفل مخاطره، إنما نجح في تقدير مفردات وأساليب كل مرحلة، وفق الحاجات والمتطلبات، مُدرکاً أنّ أي خطأ في التقدير، سيتسبب انتکاسة للمسيرة، وربما يفتح معرکة جدیدة لا یمتلك القائد مقومات خوضها والانتصار فيها.
ويقف المراقبون أمام ظاهرة وعي الإمام (رض) بمفردات الصراع الحضاري بأبعاده المختلفة، إجلالاً لرجل نادر، لم يكن يسافر ويتجول في العالم لاكتساب الخبرة، بقدر ما کان يمارس حیاته العامة كأي فقيه ومرجع ديني یعطي کامل وقته للدراسة والتبلیغ والکتابة. وهنا یمکن استخلاص جملة المقومات التي خلقت هذا الوعي في عقل الإمام الخميني وخطابه، أهمها:
أ- الاخلاص العميق لله (تعالى)، والربانیة في التفکیر، ما جعله ينظر بنور الله(12).
ب- التواضع ونکران الذات، وعدم التفكير بأية مصلحة شخصية.
ت- الغیرة علی الإسلام والمسلمین، وتحمّل مسؤوليتهم، والعمل الدؤوب في سبیل نصرتهم. هذا الاهتمام والغیرة والمسؤولية هي التي فتحت آفاقه، وأحدثت عنده ظاهرة المتابعة الدقیقة المنطلقة من أصالة التفکیر، والاستلهام الحر الواع للتاریخ وسننه، والصراع وآلیاته.
ومن خلال متابعة مسیرة الإمام (رض) وكلماته وتوجيهاته؛ نری أنه کان يُجری باستمرار مراجعات تاریخیة لعوامل نشوء الحضارات والمدنيات واختفائها؛ فكان يأخذ منها دروساً وعبر، ويوظّفها بقدر ما تتاح له الأیام المثقلة بالهموم والتحدیات، كما كان يدرك أنّ کل المشاکل والتراجعات والمآسي التي مرّ بها العالم، تعود الى أصول وعوامل حضاریة، وأن معرکة الحاضر لن تختلف عن معرکة الماضي. من هنا؛ انطبعت کثیر من صفات العملیة الحضاریة في شخصیة الإمام، ومنها نشر الوعي والافصاح عن الحقائق، وتربیة الأمة، لأنها مادة الصراع، والحصن الذي یردع الهجوم الحضاري المعادي، ومنها تقبّله للنقد ومطالبته المسؤولین في الجمهورية الإسلامیة تقبّل النقد، وتفعیله وفق الضوابط الأخلاقیة والشرعیة؛ حيث شهدت ایران حربة النقد والتعبیر من خلال الصحافة والمنابر والکتاب وغیرها، کما اعتمد مبدأ صناعة القادة الذين یتّصفون بصفات حضاریة، لأنهم یسهمون حتماً وبشکل فاعل، في إنجاح العملیة الحضاریة في میادینهم المختلفة؛ فکان يلتف حوله جمع من خیرة القادة، الذين استشعرت دول الاستکبار خطورتهم المستقبلیة؛ فحرّكت جماعاتها لتصفیتهم، في عملیات اغتيال وتفجير تدل علی دقة تشخیصها لخطورة بقاء هؤلاء في ساحة المعرکة.
وأهم ما في هذا الأمر؛ أن الإمام (رض) أشاد قواعد المواجهة الحضارية علی أسس العقیدة والمبادئ الإسلامية، لتكريس عملية ربطها بالغايات الإلهية المتعالية بالله (تعالى)، في ضوء ما أشارت الیه الآیة الکریمة: ((فمن اتّبع هداي فلا یضلّ ولا یشقی))(13).
خطاب الإمام الخميني درس للأمة وقياداتها
یبقی خطاب الإمام (رض) الذي أنتج دولة؛ مجالاً خصباً للتأمل والتدقیق والدرس، وهو بحق نموذج للخطاب الناجح، حتى وفق المعايير الدنيوية، والذي يوضع بمصاف خطاب کبار القادة التاريخيين الذین صنعوا التحولات الکبرى في التاریخ، كما ينتفع به القادة في الحاضر والمستقبل، ولكن لا یمکن النجاح في ذلك؛ إلّا إذا كان القائد يتمتع بثلاث خصال:
1- الصدق مع النفس والشعب، بعیداً عن الخداع والتضلیل والوصولیة التي ینتهي عندها کل شیء لمجرد اعتلاء العرش.
2- الثقة بالله ونصره، والتوکل علیه.
3- التعامل مع الأحداث بروح المسؤولیة الشرعیة، بعیداً عن حسابات الحکم والسلطة.
لقد كان الإمام الخميني يفكر ويخطط وينفذ، وفي الوقت نفسه يتوكّل على الله وينظر بنوره، ويترك لتوفيق الله وإرادته تحقيق الأهداف والنصر، وهو ما كان يعبر عنه باستمرار في خطابه؛ فحين أشكل عليه بعض الصحفیین بقوله: ((أنت ترید إقامة دولة، ولیس لديك دولة تدعمك، ولا حزب ولا قوة عسکریة))؛ فقال کلمته التي هي درس للعالم: ((أنا مکلّف بالجهاد، کما أنا مکلّف بالصلاة، أمّا النصر فأمره إلی الله)).
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
من نظام الأسد إلى علم الاستقلال.. الإعلام السوري يغيّر جلده في ليلة وضحاها
العرب بين حداثة الزيف وأزمة الوعي
الازدواجية بين الأسد وصدام