بغداد/المسلة:
محمد زكي ابراهيم
تأجج الشعور القومي عند العرب في القرن العشرين فكان قرناً قومياً خالصاً، وبات الناس يدينون فيه بالولاء للعروبة، ويتطلعون إلى إلغاء الحدود المرسومة على الأرض، ويحلمون بإقامة الدولة الكبرى. ولم يكن ثمة من يجرؤ على المجاهرة بالعداء لفكرة الوحدة، أو التصريح بالكراهة لها. لئلا يجر عليه سخط المجتمع والدولة. حتى اليسار الذي كان مرجعه في كل صغيرة وكبيرة الاتحاد السوفييتي، ونظرية الصراع الطبقي، لم يعلن صراحة أنه ضد هذه الفكرة. لكنه كان ينادي بالكونفدرالية. فالوحدة عند الرفاق البلاشفة تعني تقليد التجربة الرائدة التي أقامها الرفيق “فلاديمير لينين” وزملاؤه ذات يوم، وليس غيرها.
وهكذا كان النفس العروبي طاغياً في وجدان العرب وعقولهم. وكان عامة الناس في منتصف القرن الماضي يؤمنون إيماناً راسخاً، أن الوحدة ستجعل منهم كياناً قوياً، لا يمكن اختراقه، أو الاعتداء عليه من أي كان. وحينما قامت الدولة العبرية بين ظهرانيهم على حين غرة، كان معيار الوطنية والإخلاص للعقيدة بين مختلف شرائح المجتمعات العربية، التي تقطن في الأرض الممتدة بين سواحل المحيط في الغرب، وسواحل الخليج في الشرق، هو التمسك بحق الفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم. وقد تجرأ الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة في أواسط الستينات على دعوة الشعب الفلسطيني للقبول بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، فقامت الدنيا ولم تقعد عليه. ولبث يغرد لوحده دون رفيق أو حليف حتى آخر يوم له في السلطة.
لقد تراجعت فكرة الوحدة كثيراً بعد حرب 1967، ولم تعد من أولويات العرب. وبدأت إحدى أهم الأحزاب القومية العربية وهي “حركة القوميين العرب” بالتخلي عن هذه الفكرة، التي قامت من أجلها، تماماً. لكن الحس القومي لم يتزحزح عن موقعه إلا قليلاً. ولم يتخل الإسلام السياسي عنها، وإن كانت أدبياته تتجاهل الدعوة إليها، وتضع حكم الشريعة في المقام الأول. وقد أظهرت البلاد العربية موقفاً صلباً وموحداً بعد توقيع معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل عام 1979. لكن هذه الخطوة شجعت بعض الأطراف على فعل الشئ ذاته في ما بعد، ومنها منظمة التحرير الفلسطينية نفسها، عام 1993.
في القرن الجديد بدأ الانقسام الحاد حول القضية الفلسطينية. فهرعت بعض البلدان للتطبيع مع الدولة العبرية. ووقف البعض الآخر يرقب الموقف، وينتظر الفرصة الملائمة. أما أولئك الذين وقفوا ضده، فقد أضحوا موضع سخط وعداء الفريق الآخر. أي أن المعادلة انقلبت تماماً. وبات كل من يجهر بمقاومة التطبيع مشكوك في وطنيته.
لقد انقسم العرب الآن إلى محورين: “مع” أو “ضد” التطبيع. ومن الغريب أن الجمهرة الكبرى من العرب ناصبت القوى الرافضة للتطبيع العداء، وأخذت تكيل لها شتى التهم التي تصل حد التكفير. وهي تعلم أنها تصطف بذلك مع إسرائيل التي اغتصبت أراضيها. وقتلت أبناءها. وماتزال تفعل ذلك حتى اليوم. وقد أدى الموقف الجديد هذا إلى تدمير بلد مهم، وهو سوريا، يقف على خط المواجهة منذ أكثر من سبعين عاماً، لا لشئ إلا لأنه يرفض التطبيع. ويصر على عدم التفاوض مع العدو.
ومن الغريب أن التنظيمات الفلسطينية المسلحة، التي كانت تتمتع باحتضان وحماية هذه الدولة، كانت من ضمن المنقلبين عليها. وهي تعلم أن تغيير شكل النظام فيها، سيجعلها تعيد النظر في كل مواقفها مع الدولة المحتلة .. للأرض الفلسطينية!
هذا الانقلاب الخطير يعكس حجم ما طرأ على العرب خلال أقل من قرن. ولسوء الحظ فقد نقلهم خطوات كثيرة .. إلى الوراء. ولست أفهم السر الذي جعلهم يتراجعون بهذا الشكل، مع أن أسباب الصراع مازالت كما هي، لم يطرأ عليها أي جديد. وربما بات من الضروري أن يخضع مثل هذا الأمر إلى دراسات جادة، حتى يمكن تلافي الوقوع في أخطاء أخرى في قابل الأيام.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
مخطط لتغيير موازين القوى في المنطقة
الأمن العراقي يضبط 6 مزارع للمخدرات في بغداد وديالى
وكالة مهر الإيرانية: إلغاء جميع الرحلات الجوية في البلاد