المسلة

المسلة الحدث كما حدث

حزب البعث الجديد

24 سبتمبر، 2022

بغداد/المسلة:

محمد زكي ابراهيـم

رغم أنني اعتدت على التشكيك في ما أقرأه من حوادث، والتريث في الحكم على ما أسمعه من أخبار، إلا أنني أفترض أن هناك بالفعل جماعات تسعى لعودة حزب البعث إلى السلطة في العراق، بعدما أطيح به من شاهق عام 2003. وأفترض كذلك أنها تمتلك قواعد شعبية وقيادات في عدد من المحافظات العراقية، وفي دول المهجر أيضاً.

إن هذه الرواية تبدو صادمة نوعاً ما، بعد مرور ما يقرب من 20 عاماً على غياب البعث من الحياة العامة. لكن أمراً مثل هذا ليس محالاً،  ولا مستغرباً في العراق. إذ ليس هناك قانون رسمي ينظم عمل الأحزاب. وكثرتها – وهي حال مرضية توحي بالتشرذم والانقسام – أمر شائع في هذه البلاد. وهناك استثناء وحيد لحزب البعث بنسخته “الصدامية” الطائفية، فهو محظور بشكل قاطع من ممارسة أي نشاط سياسي. أي أن بإمكان الأجنحة الأخرى للحزب، التي ناصبتها مجموعة “البو ناصر” العداء، وفتكت بالكثير من قياداتها، أن تستعيد وجودها، نظرياً على الأقل، دون أي عائق. ومع ذلك فليس من المحتمل أن ينجح أي منها في الحصول على تأييد جماهيري، أو تعاطف شعبي. لسبب بسيط وهو أن التاريخ لا يعود للوراء. وما كان يحظى بالتفاف الناس في حقبة ما، لن يجد من يصطف معه في حقبة أخرى. وما كان ملائماً للحياة قبل نصف قرن، بات غير ملائم لها اليوم، وهكذا.

لقد كان العرب في الخمسينات والستينات، في مختلف بلدانهم،  يشعرون أنهم عرب قبل أي شئ آخر. ويؤمنون أن الوحدة ستجعل منهم قوة كبرى. وكان ضباط الجيش يعتنقون هذه الفكرة، ويغتنمون أي فرصة لتحقيق هذا الحلم.. حتى الأنظمة التقليدية المرتبطة بأحلاف ومعاهدات مع الإمبراطوريات الاستعمارية، لم تكن تجرؤ على معارضة هذا المد الثوري الجارف.

مثل هذا الأمر يبدو الآن بعيد الاحتمال. ومن يدع إليه لن يجد من يدعمه. بل أن الشخصيات التي قادت حركات قومية مهمة في الماضي، لم تعد متحمسة للفكرة الآن. وقد خسرت قواعدها الشعبية بمرور السنين. وآثر الذين مايزالون على قيد الحياة منها الاعتزال. فلا يوجد من هو منشغل بموضوع الوحدة الآن. ولم تعد فكرة العروبة تستهوي أحداً، مثلما كانت عليه الحال في الماضي.

وبشكل عام كان ذلك الجيل العروبي الثوري محسوباً على اليسار. وكانت العلاقات مع المنظومة الشرقية تعني “التقدمية”. في ما كان الاصطفاف مع الغرب دليلاً على “الرجعية”. ومن الطبيعي أن تكون الاشتراكية التي علا صيتها حينذاك هدفاً أساسياً من أهداف “الثورة العربية” التي تقود بلداناً فقيرة لم تنهض من كبوتها بعد. لكن الحال لم تعد كذلك الآن. فقد انهارت المنظومة الشرقية، ونسي الناس الاشتراكية. حتى الدول الشيوعية القليلة التي مازالت محتفظة بسلطة الحزب تبنت خيارات رأسمالية واضحة، وفتحت أسواقها للاستثمارات الأجنبية. وأسدلت الستار على سياسة القطاع العام بشكل شبه نهائي.

وهكذا فإن حزب البعث، إذا ما شاء أنصاره أن يعيدوه للحياة، سيكون حزباً آخر لا علاقة له بالعروبة والاشتراكية والوحدة، وهي الشعارات التي كان يرفعها في كل مكان.. ولن يكون امتداداً لنهج جماعة “البو ناصر” القديمة. لأنه لن يجد من يصطف معه في المحافظات الوسطى والجنوبية على الأقل، ذات الكثافة السكانية العالية. لقد شعر الناس هناك بالخيبة من سياساته التعسفية، ولم  يعودوا مجبرين للعمل ضد أبناء جلدتهم. وإذا ما حاول البعث العودة مرة أخرى فسيكون حزباً شيعياً خالصاً، حتى يحظى بقبول الجميع.

على أنني أعتقد أن أي حزب حتى لو كان يحمل اسم البعث، سيكون شيئاً مغايراً. وإذا ما قرر البعثيون الأحياء العودة إلى معترك السياسة، فسينشئون  حزباً جديداً، لا يمت بصلة إلى سلفه المنحل. ولن تكون أهدافه ذات الأهداف القديمة. كما أن وسائله في العمل السياسي لن تعود كما كانت من قبل. وعلى الأرجح سيختارون اسماً آخر حتى يتفادوا مشاعر الكراهية التي يحملها الناس في كل مكان ضده. لقد حكمت السياسات السابقة لحزب البعث عليه بالإعدام وقطعت جميع الطرق أمامه للعودة. وجعلت منه ذكرى سيئة لا تستهوي أحداً من العالمين.

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.