المسلة

المسلة الحدث كما حدث

العراق.. حكومة جديدة في مواجهة ملفات قديمة

19 أكتوبر، 2022

بغداد/المسلة: عباس عبود سالم

احتاجت القوى السياسية العراقية وفق حجومها الجديدة التي أفرزتها نتائج انتخابات الدورة الخامسة المبكرة للبرلمان العراقي في أكتوبر 2021 إلى عام كامل من المباحثات والحوارات والصفقات والسجالات السياسية التي لم تكن خالية من الاحتجاجات والاعتصامات والحروب الكلامية واللجوء إلى السلاح لكي تصل إلى اتفاق ينهي الانسداد السياسي ويؤدي إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد، هو الدكتور عبداللطيف رشيد، وتكليف مرشح الإطار التنسيقي الشيعي محمد شياع السوداني بتشكيل حكومة جديدة.

وجاء الاتفاق على اختيار رئيس الجمهورية وتكليف السوداني بتشكيل الحكومة الجديدة، تتويجًا لجهود ماراثونية قامت بها القوى السياسية مع الفواعل الداخلية والخارجية من أجل إيقاف التدهور في العملية السياسية، وضبط تداعياتها التي تؤثر بشكل كبير على استقرار الأوضاع الاقتصادية والأمنية في المنطقة والعالم.

وبناء عليه، تتناول هذه الدراسة أهمية تكليف السوداني بتشكيل الحكومة، وما هي نقاط القوة والضعف التي تتمتع بها الحكومة الجديدة، وما هي فرص نجاحها وإخفاقها، وأهم التحديات التي ستواجهها.

أولًا: أهمية تكليف السوداني

نتيجة فشل حكومة عادل عبد المهدي في احتواء الحراك الشعبي غير المسبوق الذي شهدته بغداد ومحافظات أخرى اضطرت هذه الحكومة للاستقالة في 1 ديسمبر 2019 واضطرت القوى السياسية للاتفاق على إجراء انتخابات مبكرة وتكليف رئيس المخابرات مصطفى الكاظمي بتشكيل حكومة جديدة في أبريل 2020، وتكليفه بتنظيم انتخابات مبكرة جرت في أكتوبر 2021 وفق قانون جديد لمفوضية الانتخابات أثير حوله الكثير من الجدل.

وقد أفرزت انتخابات 2021 نتائج غير مسبوقة، أفضت إلى تصدّر الكتلة الصدرية لأول مرة، بحصولها على 73 مقعداً من مقاعد البرلمان البالغ عددها 329([1])، كما تميزت الدورة البرلمانية الخامسة بدخول عدد كبير من المستقلين إلى مجلس النواب ناهيك عن تراجع كبير للقوى الشيعية التقليدية التي تصدرت المشهد السياسي خلال الدورات البرلمانية السابقة، الأمر الذي دعا زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر إلى انتهاز هذه الفرصة التاريخية لتصفية الحسابات مع خصومه التقليديين من خلال فرض شروطه ورؤيته ورفع شعار حكومة أغلبية لا شرقية ولا غربية، وتمكن من التحالف مع مسعود بارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومحمد الحلبوسي رئيس البرلمان، وهو ما عرف بالتحالف الثلاثي.

وأعلن الصدر ترشيح ابن عمه السيد جعفر محمد باقر الصدر سفير العراق في المملكة المتحدة رئيسًا للوزراء لكن الإطار التنسيقي رفض هذا الترشيح ونجح في تعطيل الجلسة البرلمانية التي أخفق فيها التحالف الثلاثي في تحقيق النصاب المطلوب، حيث يستوجب أن يتم انتخاب رئيس الجمهورية بأغلبية ثلثي أعضاء البرلمان حسب المادة 70 أولاً من الدستور العراقي([2]).

بالمقابل لجأت القوى الشيعية التقليدية إلى العمل معًا لجمع مقاعدها ضمن كتلة واحدة امتلكت التفوق في عدد المقاعد والعمل تحت خيمة الإطار التنسيقي الذي قاده رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، ليدخل الإطار والتيار في معركة سياسية هي الأشرس منذ الدورة البرلمانية الأولى في 2005.

لكن المفاجأة الكبرى كانت بانسحاب التيار الصدري من البرلمان، وهو التكتيك الذي فتح الأبواب باتجاه سيناريوهات أشد خطورة وضعت القوى السياسية أمام ثلاث خيارات:

الخيار الأول: الإبقاء على حكومة مصطفى الكاظمي إما بالتمديد أو بعنوان حكومة إنقاذ وإجراء انتخابات مبكرة جديدة، وهو ما كان يريده الصدر وحلفاؤه وسعوا إلى تحقيقه، لكنهم لم يتمكنوا من ذلك بفعل التكتيكات المقابلة من الإطار التنسيقي والضغط الداخلي والخارجي لتشكيل حكومة جديدة كاملة الصلاحيات.

الخيار الثاني: الدخول في حالة من الفوضى نتيجة تمسك الإطار والتيار بمواقفهما ووصولهما إلى الصدام، كما حصل في أحداث اقتحام البرلمان والمنطقة الخضراء، التي أطلق عليها الصدريون اسم “ثورة عاشوراء”، التي بدأت يوم 27 يوليو 2022 بعد اتفاق الإطار التنسيقي على اختيار محمد شياع السوداني مرشحاً لرئاسة الوزراء، وأسفرت الاشتباكات عن سقوط عشرات القتلى والجرحى وانتهت الأزمة عندما وجَّه مقتدى الصدر صباح الـ 30 من أغسطس خطابًا متلفزًا أمر فيه أنصاره بالانسحاب الفوري من أمام البرلمان وإلغاء اعتصامهم، وأمهلهم ساعة واحدة للانسحاب التام، مقدمًا اعتذاره للشعب العراقي([3]).

الخيار الثالث: تغيير خريطة التحالفات لتشكيل حكومة جديدة من خلال خروج حلفاء الصدر من التحالف الثلاثي، والدخول مع الإطار التنسيقي وهو سيناريو كان يصعب توقعه لكنه تم بالفعل([4])، واتفقت جميع القوى السياسية الرئيسية باستثناء الكتلة الصدرية على تشكيل “تحالف إدارة الدولة” الذي أسفر عن خريطة طريق للخروج من الأزمة السياسة، وبالفعل نجح هذا التحالف في انتخاب رئيس جمهورية هو عبداللطيف رشيد وتكليف محمد شياع السوداني مرشح الإطار التنسيقي بتشكيل الحكومة الجديدة.

ثانيًا: حكومة السوداني.. نقاط القوة والضعف

يتمتع السوداني بقدر من المقبولية لدى الكثير من الأوساط ويحاول تسخير خبرته الإدارية التي اكتسبها من توليه مناصب مهمة، منها محافظ ميسان، ووزير لأكثر من وزارة، وعضو برلمان لدورتين برلمانيتين، لتحقيق نجاح في مهمته، عبر برنامج طموح يركز فيه على خطة اجتماعية للحد من البطالة ودعم الشباب وانعاش الطبقة الوسطى والفقيرة التي تضررت من الإجراءات الاقتصادية الصارمة التي قامت بها حكومة الكاظمي، ومنها رفع سعر صرف الدولار وما رافقها من مشكلات اقتصادية أبرزها التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة ([5]). ويمكننا تلخيص أهم الميزات التي تتمتع بها حكومة السوداني بالآتي:

وجود قاعدة سياسية وبرلمانية كبيرة داعمة لرئيس الوزراء الجديد تتمثل في “تحالف إدارة الدولة” و”الإطار التنسيقي” الذي أكد في أكثر من مناسبة تمسكه بالسوداني، رغم اعتراضات التيار الصدري على ترشيحه([6]).
يعتبر السوداني أول شخصية من عراقيي الداخل، يكلف برئاسة الحكومة وهو يتمتع بعمق مجتمعي وبمقبولية شعبية.
الخبرة الإدارية والمهنية كونه شغل مناصب تنفيذية مهمة، إضافة إلى كونه نائبًا بارزًا في البرلمان.
وجود وفرة مالية كبيرة ناتجة عن ارتفاع أسعار النفط، فقد أعلن البنك المركزي العراقي، تحقيق أكبر احتياطي في تاريخه بمبلغ تجاوز 87 مليار دولار([7]).
وجود دعم دولي واضح تجسد بالتأييد الأمريكي والبريطاني والأوروبي والعربي السريع لتشكيل هذه الحكومة.
أما  نقاط الضعف الحكومة الجديدة، فهي كما يلي:

المدة الزمنية: ووفقًا للدستور العراقي، أمام السوداني مهلة 30 يومًا لتشكيل الحكومة الجديدة[8]، وهي بالتأكيد فترة  زمنية قصيرة قد تجعله يلجأ إلى خيارات وتفضيلات الأحزاب، خاصة الإطار التنسيقي أكثر من البحث واللجوء إلى الكفاءات السياسية  والإدارية.

-عبء تداعيات  فاتورة الأزمة بين الإطار  التنسيقي والسيد مقتدى الصدر:   فلا شك في أن الحكومة  الحالية سوف تدفع أو تتحمل عبء تداعيات  الأزمة التي شهدها العراق خلال الفترة الماضية بين  التيار الصدري و”الإطار التنسيقي”. وقد تأزم الصراع بين الجانبين  في 29 أغسطس 2022 إلى اشتباكات عنيفة بين الطرفين في وسط بغداد، أدت إلى مقتل 30 شخصاً، وفتحت الأبواب على احتمال عودة التصعيد بشكل خطير[9].

-ظهير برلماني ضعيف:  في الوقت الذي نجح فيه  السوداني  بإعادة تقديم نفسه للجمهور العراقي، حيث ترك دولة القانون وفاز بمقعد في البرلمان منفرداً، بعد أربع سنوات كان فيها نائباً نشطاً بعيون الرأي العام،  ولا شك في أن  الدعوات التي خرجت ضدّ ترشيحه، لم تكن شخصية، وإنما  كانت مرتبطة بظرف كونه مرشح الإطار التنسيقي”. وفي الواقع، لا يملك السوداني داخل البرلمان سوى ثلاثة مقاعد، من ضمنهم السوداني نفسه، لكنه يحظى فقط بدعم القاعدة البرلمانية الواسعة في البرلمان الحالي التي يهيمن عليها الإطار التنسيقي.  ولكن إذا ما  حدث خلاف بينه وبين  زعماء الإطار التنسيقي فقد يتم التضحية به فورًا،  كما أنه سوف  يتعرض لضغوطات دائمًا  من جانب الإطار ومن جانب الكتلة الصدرية أيضًا[10].

-الملفات الخارجية: من نقاط ضعف الحكومة هو انشغال رئيس الوزراء الجديد بالتوازن السياسي والعلاقات الخارجية، وهذا سيبعده عن الاهتمام بالمساحة الأمنية والعسكرية التي تعاني تشتت الاستراتيجية  وغياب الرؤية الواضحة للتهديدات والمخاطر والتحديات وعدم وضوح العقيدة لدى المؤسسات الأمنية  والعسكرية العراقية التي تعاني الضعف والتراجع والاحباط والذي يعزز القلق بعدم إمكانية النهوض بهذه المؤسسات، وبالتالي عدم التمكن من إنتاج معالجات سريعة للخلل الأمني والعسكري، مع تعاظم التحديات الأمنية الداخلية والخارجية. كما سيواجه الحكومة تحدي الحفاظ على توازن العلاقات مع القوى الإقليمية والدولية المختلفة المتنافسة في العراق، ولاسيما مع الاتهامات التي تتعرض لها بقربها من القوى الحليفة من إيران.

ثالثًا: التحديات التي ستواجه حكومة السوداني

مواجهة رد فعل الصدريين
في أول رد فعل له على تكليف السوداني انتقد مقتدى الصدر بقوة تشكيل الحكومة الجديدة من خلال تغريدة للحساب الناطق باسمه على تويتر والذي يحمل اسم صالح محمد العراقي، قائلًا إنه يشدد رفضه القاطع والواضح والصريح للاشتراك في حكومة السوداني من قبل التيار الصدري أو المحسوبين عليه أو المنشقين عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة مطلقاً، وبأي عذر أو حجة كانت([11]).

لذلك ستكون المهمة الأعقد والأصعب أمام رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني هي إقناع الصدريين ببرنامج حكومته ومنهاجها، والأخطر في المواجهة مع التيار تكمن في ثلاث نقاط، أبرزها:

أ. المواجهة مع الشارع الصدري القوي الذي سبق أن قاد احتجاجات غير مسبوقة في أكثر من مناسبة منذ 2014 لغاية اليوم، وكان آخرها وأعنفها الاحتجاجات التي أدت إلى اقتحام المنطقة الخضراء والاعتصام داخل مجلس النواب، ثم ما أعقبه من أحداث دامية.

ب. تفكيك الدولة العميقة التي أسسها التيار الصدري من خلال مشاركته ورعايته لثلاث حكومات متعاقبة منذ 2014 لغاية 2022 حيث يحتفظ التيار أو أنصاره وأصدقاؤه بمواقع حساسة داخل بنية الدولة العراقية، وسيكون أمام السوداني مهمة بالغة الصعوبة والتعقيد للتعامل مع هذا الواقع، رغم أن الصدر أعلن صراحة عن سحب دعمه لكل من يشترك في الحكومة([12])، فالتيار الصدري انسحب طوعًا من البرلمان وهو يمتلك 73 نائبًا.

ج. القدرة على ضبط إيقاع التعامل مع الجماعات المسلحة التابعة للتيار الصدري؛ مثل سرايا السلام وجيش المهدي ولواء اليوم الموعود، التي من المحتمل أن تعود لحمل السلاح لتشكل عامل قلق للحكومة التي ستسعى لحصر السلاح بيد الدولة .

مواجهة الحراك المدني والتشريني
كان محمد شياع السوداني من الداعمين للحراك التشريني الذي شهدته بغداد ومحافظات الوسط والجنوب في أكتوبر/تشرين الأول 2019، وأدى إلى تداعيات خطيرة تسببت في إسقاط حكومة عادل عبد المهدي بعد أقل من عام على تشكيلها، وقد تراجعت الاحتجاجات في عهد حكومة مصطفى الكاظمي الذي تبنى شعارات هذا الحراك في خطابه السياسي دون أن يحقق نجاحًا على الأرض، وفي مقال تحليلي نشره معهد السلام الأمريكي بمناسبة مرور عام على حكومة الكاظمي، أشار إلى أن الكاظمي وعد بتلبية العديد من مطالب المحتجين، إلا أنه لم يحقق كثيرًا من النتائج الملموسة([13]).

ولكن من المستبعد أن يحذو السوداني حذو سلفه الكاظمي في التعاطي مع هذا الملف، بل إنه سيعطي الأولوية للخدمات والاهتمام بالشرائح الفقيرة والوسطى، لتوسيع القاعدة الشعبية المؤيدة له، وقد أكد السوداني في كلمته الرسمية بعد تكليفه تشكيل الحكومة أن من أولوياته العمل على تحقيق ما وصفها بالمطالب الحقة للشباب([14]).

استيعاب ضغط قاعدته السياسية البرلمانية
ذكر توبي دودج وريناد منصور في ورقة بحثية للمعهد الملكي للشؤون الدولية، نشرت في يونيو 2021، أنه “بموجب النظام السياسي العراقي الذي تشكل بعد عام 2003، تتضمن عملية تشكيل الحكومة بعد الانتخابات تنافس الأحزاب على النفوذ في كل وزارة من الوزارات العراقية، وعلى الموارد التي تخضع لإدارتها”([15]).

ورغم أن تمتع السوداني بأوسع قاعدة سياسية وبرلمانية منذ 2014 يعتبر عامل قوة تجسّد في ائتلاف إدارة الدولة، الذي نجح في جمع 277 نائبًا من أصل 329 شاركوا في جلسة انتخاب رئيس الجمهورية([16])، إلا أن هذه القاعدة الواسعة ستكون عامل استنزاف وضغط ستواجهه حكومة السوداني، فحسب التقاليد السياسية العراقية التي تقوم على التوافقية في تقاسم المناصب الحكومية سيواجه السوداني مصاعب كبيرة في إرضاء الداعمين.

احتواء الفصائل المسلحة
الأخطر في ملف تعاطي السوداني مع داعميه هو كيفية تعامله مع الفصائل المسلحة التي تعمل خارج نطاق الحشد الشعبي، إذا ما واجه ضغوطًا أمريكية تتعلق بتقليص نفوذ هذه الفصائل التي كانت داعمة للإطار التنسيقي، كذلك كيفية الانسجام مع مؤسسة الحشد الشعبي وتقويتها ودعمها، لاسيما وهي تشكل دعامة قوة للإطار التنسيقي، وليس من المتوقع أن يكرر السوداني ما وقع فيه الكاظمي من أخطاء عندما أدخل الدولة مواجهات مباشرة مع الفصائل المسلحة انتهت بتراجعه عن خطوات تصعيدية اتخذها في حوادث متكررة.

استعادة هيبة الدولة
تسببت الصراعات والاضطرابات السياسية في تراجع هيبة الدولة واهتزاز ثقة الشعب بالحكومة واقتران صورتها بالفساد واللامبالاة، بفعل انتشار الفساد الإداري وحملات التسقيط الإعلامي، والتصريحات والمواقف السياسية اللامسوؤلة، والمعارك الكلامية بين الخصوم السياسيين وانتشار السلاح خارج نطاق الدولة، وعدم احترام رجال الأمن، ناهيك عن دور وسائل التواصل الاجتماعي والجيوش الإلكترونية في إسقاط هيبة الدولة، ويبدو أن السوداني وضع هذا الملف في مقدمة أولوياته وتطرق له في أول كلمة له بعد تكليفه قائلاً: إن “هيبة الدولة وفرض احترام القانون، وإيقاف نزيف التدهور والانفلات بجميع مسمّياته وأشكاله، والانتصار لقيم المجتمع العراقي الأصيلة” في مقدمة اهتمام حكومته”([17]).

الفساد الإداري
تعهد رئيس الوزراء العراقي المنتهية ولايته مصطفى الكاظمي، منذ توليه مهامه وفي أكثر من مناسبة بالمضي قدمًا في محاربة الفساد حتى لو كلفه ذلك إسقاط حكومته([18]).  ومع ذلك لم يتمكن الكاظمي من تحقيق نجاحات كبيرة في محاربة الفساد، بل خلف وراءه تركة ثقيلة من الفساد المالي والإداري، وهو ما أكده وزير المالية على عبد الأمير علاوي في كتاب استقالته الذي وصفه “بتدهور الدولة التي تم الاستيلاء عليها فعلياً من قبل الأحزاب وجماعة المصالح الخاصة”([19]).

وهنا يجد السوداني نفسه في مواجهة تركة ثقيلة من الفساد المستشري في كل مفاصل الدولة؛ لذلك دعا إلى حملةٍ وطنيةٍ شاملةٍ لمكافحة الفساد وتعهد بأن تقوم حكومته بغلق منافذ الفساد عبرَ القوانين والتشريعات الصارمة، بالتعاون مع السلطتين التشريعية والقضائية([20]).

الترهل في الدرجات الخاصة
يستأثر بالدرجات الخاصة قرابة 5 آلاف مسؤول حكومي في المجموع، ومعظم هذه المناصب دبلوماسية (سفراء) أو يشغلها أصحاب رتب عسكرية رفيعة في قوات الأمن العراقية، وفي الوقت نفسه، هناك ما يقرب من 1000 من أصحاب الدرجات الخاصة في الحكومة العراقية من كبار موظفي الخدمة المدنية الذين يعملون وكلاء مباشرين للأحزاب السياسية([21])، وقد تضاعف هذا العدد خلال حقبة الكاظمي التي شهدت ترهلاً أكثر من الحكومات التي سبقتها في هذا الملف، ويؤخذ عليها أنها لم تتمكن من تقنين الاختيار لمن يشغل هذه الدرجات التي ستكون تركة ثقيلة يتحمل تبعاتها السوداني وسيكون من الصعب عليه معالجتها لأسباب قانونية وسياسية.

العلاقة مع إقليم كردستان
من المتوقع أن يلتزم السوداني بالاتفاقات التي عقدها الإطار التنسيقي مع الحزبين الكرديين، لكنه سيحاول تأجيل المشكلات بين الإقليم والمركز، ولاسيما تلك الموروثة من الحكومات السابقة، وقد أوضح السوداني سياسته مع الإقليم بأنها ستتم وفقَ الدستور في تمتين العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان وفك الخلافات والمسائل العالقة منذُ أمدٍ بعيد([22]).

القواعد الامريكية في العراق
يثير تزايد أعداد القواعد العسكرية الأمريكية في العراق، خلال السنوات الماضية، تساؤلات ملحة حول الغايات والأبعاد السياسية والعسكرية التي ترسمها واشنطن في البلد الذي انسحبت منه أواخر عام 2011، حيث يتوزع وجود القوات الأمريكية في العراق على ما يقارب 12 قاعدة عسكرية منذ منتصف عام 2014، حيث بررت واشنطن وجودها بمحاربة تنظيم داعش الإرهابي وبموجب اتفاقية التعاون الاستراتيجي والاتفاقية الأمنية مع بغداد([23]).

وفي مطلع عام 2020 قرر البرلمان العراقي خروج القوات الأمريكية والأجنبية من العراق، وتسعى بغداد منذ ذلك الوقت إلى ترتيب خروج القوات الأمريكية خلال الحوار، وتعهدت واشنطن بسحب عدد مهم من قواتها، لكن هذا لا يبدو أنه سيتحقق في المدى القريب([24])، وسيواجه السوداني ضغوطًا متقابلة إيرانية وأمريكية بخصوص هذا الملف، ومن المستبعد أن يتخذ خطوة متعجلة بخصوصه، لكن السوداني أكد في أول كلمة له بعد تنصيبه أنه لن يسمحَ باستخدام أراضي العراق ساحة للاعتداء على الآخرين([25]).

السياسة الخارجية
حظي تكليف محمد شياع السوداني برئاسة الحكومة الجديدة بدعم دولي واضح، ولاسيما من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيران وممثلية الأمم المتحدة في العراق ومن دول عربية عدة([26]).

وكانت الولايات المتحدة قبيل تكليف السوداني حددت جوانب دعمها للعراق من خلال 4 ملفات هي: النمو الاقتصادي وخلق المزيد من فرص العمل، وضمان الهزيمة الدائمة لداعش، والقضاء على الفساد، وزيادة المرونة في مواجهة آثار تغير المناخ([27]). وخلال عام من الحراك السياسي العراقي كان الموقف الأمريكي واضحًا في دعوته للحوار ورفضه العنف وتذكيره بالتزام الولايات المتحدة بالشراكة مع الشعب والحكومة العراقية ([28]) كما تقدمت بريطانيا ([29]) وفرنسا ([30]) وألمانيا والممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، جينين هينيس بلاسخارت([31]) ودول أوروبية أخرى بالتهاني للسوداني والتطلع إلى جهوده لتشكيل حكومة جديدة. وشدد السوداني على إرسال رسالة تطمين للمحيطين الدولي والإقليمي، قائلًا “رسالتنا للدول الشقيقة والصديقة رسالةُ تعاونٍ وتفاهمٍ وتنسيق، قائمة على أساس المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام السيادة، مع التركيز على أنْ يكونَ العراقُ نقطةَ التقاءٍ بين أشقائه وأصدقائه([32]).

ومن المتوقع أن يسعى السوداني للحصول على المقبولية في المحيط العربي، ولاسيما الخليجي، والحفاظ على العلاقة المميزة مع مصر والأردن، وربما فتح علاقات أوسع مع المملكة العربية السعودية والامارات، وكذلك تطوير العلاقات مع الكويت والحفاظ على التوازن في العلاقة بين واشنطن وطهران.

خاتمة

برغم تعدد وتنوع الملفات على طاولة رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني فإن المهمة الأصعب أمامه ستكون كسب ثقة الشعب قبل أي شيء آخر، كون تكليفه جاء في وقت تعيش فيه القوى السياسية التقليدية تحديًا وجوديًا مع تغيير خريطة الفواعل السياسية في المشهد العراقي، ودخول الشارع كفاعل مهم، وتطور التوظيف السياسي لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.

لذلك فالمهمة الأساسية أمام رئيس الوزراء الجديد هي إعادة الثقة بين الشعب والقوى السياسية وتهدئة الشارع، فإن نجح فيها فسيضمن اجتياز العملية الديمقراطية الحالية أصعب امتحان واجهته منذ الدورة البرلمانية الأولى في عام 2005، وإذا فشل في هذه المهمة فسوف يدخل العراق في مرحلة سياسية جديدة بقواعد عمل مختلفة، ربما تؤدي إلى الديكتاتورية أو الفوضى.

المراجع

[1] ). “انتخابات العراق 2021: كيف تبدو الخريطة السياسية بعد إعلان النتائج الأولية؟”، بي بي سي عربي، 12 أكتوبر 2021، https://bbc.in/3rUpP8b

[2] ). “الدستور العراقي، الموقع الرسمي لمجلس النواب العراقي”، لمزيد من التفاصيل، انظر: https://bit.ly/3rXR7dW

[3] ). “”تغريدة الصدر” تفض تظاهرات المنطقة الخضراء”، إندبندنت عربية، 27 يوليو 2022 ، https://bit.ly/3CF2bkL

[4] ). “الحلبوسي لـ “العربية”: التحالف الثلاثي انتهى”، موقع العربية نت، 29 سبتمبر ,2022: 11:39 م GST، https://bit.ly/3rUDP1N

[5] ). “محمد شياع السوداني”، جلسة نقاش خاصة شارك بها الباحث 8 تموز 2022.

[6] ). “الإطار التنسيقي بالعراق يتمسك بالسوداني مرشحًا لرئاسة الوزراء،” الجزيرة نت، 12/9/2022، https://bit.ly/3g8u8Kn

[7]). “المركزي العراقي يحقق أكبر احتياطي في تاريخه بقرابة 87 مليار دولار”، موقع أريبيان بزنس، الجمعة 30 سبتمبر 2022، https://bit.ly/3Vv1fs8

[8] “محمد شياع السوداني المُكلّف بتشكيل الحكومة العراقية الجديدة: من هو؟”، بي بي سي عربية، 14 أكتوبر 2022، https://bbc.in/3ELT44O

[9] – “رئيس العراق الجديد يكلف محمد السوداني بتشكيل الحكومة”، العربية نت،  13 أكتوبر 2022، https://bit.ly/3geXWFn

[10] – “محمد السوداني رئيسا جديدا للحكومة في العراق في ظل مشهد منقسم”، سويس أنفو، 13 أكتوبر 2022، https://bit.ly/3D3nqyq

[11] ). “وزير القائد – صالح محمد العراقي”، الحساب الرسمي على تويتر، https://bit.ly/3S2aVHl

[12] ). وزير القائد، المصدر نفسه.

[13] ). “عمر الشمري، قراءة عراقية في أداء حكومة الكاظمي مع قرب انتهاء مهامها”، الجزيرة نت، ،6/9/2021 ،https://bit.ly/3rVQzoD

[14] ). “كلمة رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني”، وكالة الأنباء العراقية، بغداد 2022-10-14، https://bit.ly/3VxCDyX

[15] ). “توبي دودج وريناد منصور، ورقة بحثية، الفساد تحت المظلة السياسية وعوائق الإصلاح في العراق”، برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، معهد تشاتام هاوس، يونيو 2021، ص 3، https://bit.ly/3rYppxG

[16] ). “انتخاب عبداللطيف رشيد رئيسًا للعراق”، الحرة – واشنطن، 13 أكتوبر 2022، https://arbne.ws/3EODghH

[17] ). “كلمة رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني”، مصدر سبق ذكره.

[18] ). إبراهيم صالح، “الكاظمي يتعهد بمحاربة الفساد ولو كلفت إسقاط الحكومة”، الأناضول، بغداد، 25.06.2021، https://bit.ly/3VvhpS7

[19] ). “استقالة وزير المالية العراقي تفتح ملف الفساد مجددًا”، إندبندنت عربية، السبت 20 أغسطس 2022 19:29، https://bit.ly/3S3HWTI

[20] ). “كلمة رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني”، مصدر سبق ذكره.

[21] ). “توبي دودج وريناد منصور، مرجع سبق ذكره.

[22] ). “كلمة رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني”، مصدر سبق ذكره.

[23] ). “هذه القواعد الأمريكية في العراق وأماكن توزيعها”، عربي21، لندن، الأحد، 05 يناير 2020 ، https://bit.ly/3T1BYUC

[24] ). أحمد الدباغ، “الوجود العسكري الأمريكي في العراق.. حقائق وأرقام”، الجزيرة نت، 8/4/2021 https://bit.ly/3D2DOyQ

[25] ). “كلمة رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني”، مصدر سبق ذكره.

[26] ). “السفيرة الأمريكية في بغداد، إلينا رومانوسكي”، الحساب الرسمي على تويتر https://bit.ly/3yFuUEV

[27] ). “المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس،” بيان صحفي، الموقع الرسمي للسفارة الامريكية في بغداد، 10 تشرين الأول 2022 https://bit.ly/3RYYPyY

[28] ). “المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس”، مرجع سبق ذكره.

[29]). Mark Bryson-Richardson, The Official account for the British Ambassador to Iraq Mark Bryson-Richardson.P: 13 OCT 2022 9:56 PM https://bit.ly/3yEHTqH

[30] ). AMBASSADE DE FRANCE EN IRAK, Tweet La France en Irak @FranceBagdad, 19:04. 13 oct, 22. https://bit.ly/3etwymf

[31] ). “بلاسخارت للسوداني: نأمل ببرنامج حكومي يلبي احتياجات الشعب”، وكالة الأنباء العراقية، بغداد 2022-10-14 https://bit.ly/3rYxfaA

[32] ). “كلمة رئيس الوزراء المكلف محمد شياع السوداني”، مصدر سبق ذكره .

كاتب وإعلامي – متخصص في العلاقات الدولية والامن الإقليمي – العراق

تريندز للبحوث والاستشارات

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.