المسلة

المسلة الحدث كما حدث

السوداني بين رغبته بالتفاعل مع المحيط العربي ورفض داعميه لتوجهات العراق العربية

1 يناير، 2023

بغداد/المسلة: د. إحسان الشمري

يعد العام 2022 م، الأصعب في العملية السياسية وعلى كافة الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، فقد واجهت العراق حالة من عدم الاستقرار لعدة اعتبارات، منها :  كون أن الحكومة هي لتصريف الأمور اليومية مما عمل على شل مؤسسات الدولة، فضلاً عن  طبيعة الصراعات السياسية التي انعكست بشكل مباشر على الحياة العامة وأظهرت ارتباكًا أمنيًا على مستوى صعود الخيار المسلح لفرض إرادة سياسية

أو فيما يرتبط بعودة نشاط الجماعات الإرهابية في عدد من المدن مما أدى إلى سقوط عدد من الضحايا، وأثر ذلك على عدم وجود تقدم ملحوظ في المجال الاقتصادي؛ وعلى الرغم من المجالات الأخرى إلا أن هذا العام يمكن يوصف بأنه عام سياسي بامتياز استنادًا إلى الملفات التي سوف نتناولها في هذه الدراسة.

صراع الانتخابات وانعقاد جلسة البرلمان:

تعد أزمة تشكيل الحكومة العراقية الحالية من أطول أزمات البلاد التي أدخلته في صراعات تسببت في انقسام الشارع العراقي، إذ لم تمر على العراق أزمة سياسية منذ تأسيس النظام الجديد في العراق بعد 2003م، مثل التي حدثت بعد الانتخابات المبكرة التي جرت في العاشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2021م، وتعود جذور الأزمة السياسية في العراق إلى إعلان نتائج الانتخابات المبكّرة في تشرين الأول / أكتوبر 2021م، عندما فاز التيار الصدري بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، بأكبر عدد من المقاعد، وجرت العادة في العراق على أن يتمّ تقاسم السلطة على مبدأ المحاصصة، وأن تشكّل القوى الشيعية مجتمعةً الكتلة الأكبر في البرلمان التي عليها اختيار رئيس للحكومة، لكن الصدر حاول إنهاء ذلك التقليد.

جاءت نتيجة الانتخابات على نحو زادت من مقاعد “كتلة الصدر”، وهي الأكبر في البرلمان المؤلف من 329 مقعداً، لتصل إلى 73 مقعداً بعد أن كانت 54 نائبًا في البرلمان السابق، فيما انهار “تحالف الفتح” المنافس الرئيس لها منذ سنوات، والذي يضم الفصائل المرتبطة بالميليشيات المسلحة الموالية لإيران، إذ حصلت على 14 مقعداً بدلا من 48، والتي كانت قد حصدتها في انتخابات عام 2018م، بعد المشاركة في محاربة تنظيم “داعش” في العراق، كما جاءت الكتلة السنية في المرتبة الثانية، ما قد يمنح الأقلية السياسية السنية أكبر قدر من النفوذ تتحصل عليه منذ سقوط نظام صدام حسين، وتشكيل إيران للنظام السياسي العراقي القائم على تعزيز الطائفة الشيعية بعد سقوط صدام حسين وزوال نظام حزب البعث.

بعد إعلان نتائج الانتخابات البرلمانية، نزل عديد من أنصار الميليشيات الموالية لإيران التي خسرت مقاعدها بالبرلمان إلى الشوارع، وادعوا أن الانتخابات تم تزويرها ضدهم، بيد أن الفوضى التي صاحبت شوارع العراق ما بعد النتائج لم تقتصر فقط على تظاهرات الغاضبين، الذين نظموا اعتصامات بالقرب من المنطقة الخضراء في بغداد لأسابيع، بدعوى تزوير الانتخابات، بل أثار هجوم بطائرة من دون طيار على مقر إقامة رئيس الوزراء العراقي شبح استمرار العنف من قبل الجماعات والميليشيات العراقية، وعلى الرغم من تأكيد رئيس الوزراء أنه لم يُصب بأذى في الهجوم، فإنه اعتبر من جانب بعض المسؤولين العراقيين ومنهم الرئيس العراقي السابق برهم صالح انقلاباً على النظام السياسي العراقي.

انعكس التوتر السياسي بين الكتل على الجلسة الأولى للبرلمان الجديد التي عقدت في 9 كانون الثاني/ يناير 2022م، التي حضرها 228 عضوًا من أصل 329، إذ شهدت مجموعة من المشادات العنيفة بين أعضاء تلك الكتل المتنافسة في الانتخابات، مع أنباء عن اعتداء حصل على رئيس الجلسة المؤقت الأكبر سنًا محمود المشهداني ونقله إلى المستشفى، وبطبيعة الحال لم يتم فيها تحديد الكتلة الأكبر التي ستقوم بتشكيل الحكومة وفق الدستور العراقي، وهو الأمر الذي مهد لمزيد من التوتر السياسي فيما بعد.

معارضة الصدر والصدام الشيعي-الشيعي

شكل انسحاب واستقالة نواب  الكتلة الصدرية من البرلمان   في 12 حزيران / يونيو 2022م ، صدمة كبيرة للقوى السياسية والشارع الشيعي خاصة كونه الفائز الأول بالانتخابات، في وقت كان يعول عليه الشارع العراقي بإجراء تغييرات داخل بنية العملية السياسية العرجاء، إذ أن قرار الصدر أربك المشهد السياسي العراقي وما يترتب عليه من نتائج وخيارات قد تؤدي إلى سيطرة أكبر لحلفاء إيران على العملية السياسية برمتها، وقد يكون  قرار الصدر مبني على قراءات مسبقة لعمر الحكومة التي ستتشكل لاحقًا والتي ستعجز عن إجراء إصلاحات في ظل صراع القوى السياسية يصاحبه غياب القوى الوطنية مع هيمنة للفصائل المسلحة.

تبنى الصدر خطابًا تحت عنوان “الإصلاح السياسي” يتمثل في مكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين وعدم القبول بمشاركة السياسيين والأحزاب التي كانت جزءًا من العملية السياسية بعد عام 2003م، في أي حكومة جديدة، ما ينفي أي احتمال لاستجابة الصدر للحوار الوطني الذي دعا إليه رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، أو القبول بوجود حكومة يقودها الإطار التنسيقي.

سعى الصدر إلى تشكيل حكومة أغلبية وطنية بمقدورها البدء في تنفيذ الاصلاحات، بما في ذلك الحد من السيطرة على الميليشيات ومحاربة الفساد، وكبح جماح النفوذ الخارجي من قبل دول مثل إيران، وتحييد العراق إزاء الخلافات الإقليمية، وإنه سيكون في مواجهة مع تحديات عديدة، حيث أنه حتى لو كان بمقدوره تشكيل حكومة أغلبية، إلا أن تحقيق المزيد من التغيير سيتطلب معركة شاقة لأن الإصلاح مهمة شديدة الصعوبة تتطلب جهدًا هائلًا، كما أن بعض جوانب هذا الإصلاح قد تتطلب عقوداً لتتحول إلى واقع ملموس.

إن مجموعة من هذه العقبات التي سيواجهها الصدر، من بينها قدرة الحكومة على الاستمرار، حيث أن خطة التعافي تتطلب موافقة معظم اللاعبين السياسيين في حين أن الإجماع السياسي أمر نادر الحدوث في العراق، ولهذا فإن تشكيل الأغلبية والحفاظ عليها مع الأحزاب السياسية الأخرى مسألة تظللها الشكوك.

وضع الصدر شروطًا للانضمام إلى الحوار الوطني تنم عن رغبة واضحة في عدم الاستجابة لأي دعوات للحوار التي لا تضع مسارا للسماح للعراقيين بالخروج من الأزمة السياسية الراهنة، واشترط الصدر أن يكون الحوار علنيًا لإبعاد كل المشاركين في العملية السياسية والدورات الانتخابية السابقة، ما يقود إلى التساؤل عن جدوى الحوار الذي يدعو إليه الصدر ومن هي الجهات أو الشخصيات التي تشارك فيه.

كان العراق في 29 و30 آب / أغسطس 2022م، على وشك الدخول في حرب داخلية بعد اقتحام مئات المسلحين من التيار الصدري للمنطقة الخضراء للسيطرة على قصري الرئاسة والحكومة بقرارات اتخذتها قيادات في التيار قد تكون بعلم ودراية وتوجيه من رئيسه، وواجه الصدر تراجعًا معنويًا من مرجعه الديني كاظم الحائري الذي أعلن في سابقة غير معروفة بالتراث الشيعي عن إغلاق مكاتبه وتخليه عن موقعه مرجعًا دينيًا لمقلديه، ومنهم مقتدى الصدر، ودعوتهم لتقليد المرجع الإيراني الأعلى علي خامنئي، وتوجيهه انتقادات تنتقص من مكانة مقتدى الصدر العلمية وأهليته لتمثيل مرجعية والده محمد صادق الصدر.

وفي حين تراجعت قوة التيار الصدري في العراق بعد سلسلة قرارات وصفت بأنها “خاطئة”، إلا أن الموقع القيادي لمقتدى الصدر داخل البيئة الاجتماعية والدينية لأتباعه لم يتغير نظرًا للإرث التاريخي. ولا يبدو أن مكانة الصدر بين أتباعه تأثرت سلبًا بقراراته الأخيرة، سواء فشل كتلته البرلمانية في تشكيل حكومة أغلبية وطنية أو انسحاب نوابها من مجلس النواب، أو ما يتعلق بقراره اعتزال العمل السياسي نهائيًا في 29 أغسطس/آب الماضي، وتداعيات اقتحام المنطقة الخضراء وسط بغداد بقوة السلاح ومحاولة الاستيلاء على المؤسسات السيادية للدولة، وعمومًا، سيظل التيار الصدري يشكل جزءًا أساسيًا من منظومة العمل السياسي في العراق من داخل العملية السياسية أو من خارجها.

إن الحقيقة الثابتة في هذا الحادث تتمثل إمكانية القوى السياسية العراقية على إرباك الوضع الأمني ونقل البلد إلى حرب أهلية ما بين الأطراف التي تصارعت هناك في أي وقت تختاره هذه القوى المسلحة على حساب الدولة العراقية، فضلًا عن وجود محاولات لبسط قوى السلطة نفوذها على المؤسسات الأمنية وهذا ما جرى بالتزامن مع تشكيل الحكومة لاستحواذ عدد من الجهات والفصائل المسلحة على مناصب أمنية حساسة وهذا يعكس مدى تدخل هذه الأحزاب السياسية في الملف الأمني العراقي ومحاولة السيطرة عليه كجزء من إظهار قوتها العسكرية على حساب الآلية الديمقراطية.

إعادة صياغات التحالفات وتشكيل حكومة السوداني:

إن انسحاب مقتدى وكتلته البرلمانية ، أثر بشكل مباشر على حلفائه في تحالف إنقاذ وطن الذي أسس من التيار الصدري وتحالف السيادة  بزعامة محمد الحلبوسي رئيس  البرلمان العراقي بالإضافة للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البارزاني ، إذ تحول الحلفاء ( السيادة – الديمقراطي ) بعد إنهيار تحالف إنقاذ وطن إلى دائرة الضعف السياسي كقوى فائزة انتهجت موقفًا مغايرًا للاطار التنسيقي الشيعي، مما اضطرهم للقبول، نتيجة حاجة التمثيل المكوناتي، إلى الانخراط بحوارات مع قوى الإطار التنسيقي مختلفة جذريًا عن اتفاقاتهم السابقة، وأدت هذه الحوارات إلى التوقيع على ورقة الاتفاق السياسي لما يعرف بتحالف إدارة الدولة وتسمية المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء.

في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2022م، حدثت أخيراً حلحلةً في عملية تشكيل الحكومة العراقية مع استلام الرئيس الجديد عبد اللطيف رشيد منصبه بعد مرور أكثر من عام على انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021م، ثم المصادقة على حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في جلسةٍ مجلس النواب التي عقدت في 27 تشرين الأول/أكتوبر ، وبذلك أغلقت أخيراً الدورة الانتخابية الأكثر إثارةً للمشاكل في تاريخ العملية السياسية العراقية بعد عام 2003م، وهو فصل كاد فيه تصويت شعبي واضح أن يفشل في تحقيق انتقال سلمي للسلطة، ودفعت فيه الفصائل الخاسرة الفائز الأكبر للتخلي عن مجلس النواب من خلال الأحكام القضائية.

كان مشهد التصويت على حكومة محمد شياع السوداني في البرلمان العراقي، مساء 27 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ثم مباشرته مهامه رئيساً لوزراء العراق في اليوم التالي، في المقرّ الرسمي للحكومة، وكأنه نهاية، من الناحية الشكلية، لثلاث سنوات من الاضطرابات السياسية والشعبية، بدأت من إسقاط حكومة رئيس الوزراء الأسبق، عادل عبد المهدي، في موجة احتجاجات تشرين، والمجيء بحكومة الكاظمي المؤقتة، والتي عايشت اضطرابات مستمرّة ونزاعات ما بين القوى السياسية الرئيسة، وانتهاك المليشيات صلاحيات الدولة، واستمرارها باستهداف المواطنين المعارضين سلطتها غير الشرعية.

هكذا، أنهت جلسة المصادقة البرلمانية على ترشيح السوداني أيضًا أزمة مستعصية بدت بدون حل، استمرت نحو عام منذ نهاية انتخابات أكتوبر المبكرة، العام الماضي، التي فاز فيها التيار الصدري ومنعته المعارضة الشرسة للإطار التنسيقي من تشكيل حكومة أغلبية بقيادته، وظهرت سلسلة التطورات السريعة خلال الأسبوعين الماضيين بدءًا من الانسحاب الصدري المفاجئ والسريع من المواجهة وقدرة الإطار، بسبب هذه الانسحاب، إمضاء انتخاب رئيس الجمهورية ثم تكليف هذا الأخير للسوداني بتشكيل الحكومة، وصولاً لقدرة السوداني، بدعم إطاري رغم الخلافات الداخلية الحادة، إنجاز هذا التشكيل في وقت قياسي غير مسبوق في كل حكومات ما بعد 2003م، خلال مدة 14 يومًا فقط.

نالت التشكيلة الوزارية للسوداني الثقة بواقع 250 صوتًا من أصل 257 عضوًا حضروا الجلسة، وهو رقم كبير جدًا يعكس ثقة البرلمان بها، وجاءت الحكومة مكونة من 23 وزارة، تم التصويت على 21 منها، وتم استكمال التصويت على حقيبتي البيئة والإسكان والإعمار ما بعد شهر من عمر حكومة السوداني، وجاءت التشكيلة الوزارية على النحو التالي :

حصل الإطار التنسيقي على 12 وزارة وهي كل من الداخلية، النفط، المالية، الكهرباء، الصحة، التعليم العالي، الزراعة، النقل والمواصلات، العمل والشؤون الاجتماعية، الرياضة والشباب، الموارد المائية، الاتصالات، فيما كانت حصة المكون السني ست وزارات وهي كل

من: الدفاع، التخطيط، التربية، الصناعة، التجارة، والثقافة، وحصة المكون الكردي 4 وزارات وهي كل من الخارجية، العدل، الإسكان والإعمار، والبيئة، بينما ستكون ثلاث وزارات غير سيادية من التشكيلة الحكومية من نصيب المستقلين والمسيحيين والتركمان.

النفوذ الإيراني:

إن نجاح إيران في توظيف معطيات مشهد تفاقم التردي الداخلي وضعف التأثير الخارجي لصالحها سيؤسس لتلك المعطيات التي ستدفع إيران في إعادة نفوذها بشكل أكبر تأثيرًا على القرار العراقي، إذ عملت إيران على محاور عدة متوازية للتأثير ومحاولة التحكم بالمشهد العراقي من خلال التعاطي مباشرة مع القيادات العراقية التي تعاملت مع إيران في زمن المعارضة، وهناك أحزاب تصدت للمشهد السياسي بدعم مالي ولوجيستي إيراني، مما ضمن لإيران بعد فوز هذه الأحزاب بالانتخابات الأخيرة الحرص بالنيابة عن طهران على الحفاظ على المصالح الإيرانية ليس داخل العراق فحسب، بل حتى خارجه.

كان التأثير الإيراني في العام 2022م، في أعلى مستوياته سواء على مستوى تشكيل التحالفات السياسية وفق البيوتات الطائفية والقومية او في دفع الصدر نحو الاستقالة ومحاولة تحجيم وتهديد مستقبل تياره السياسي أو في تشكيل الحكومة العراقية من خلال حلفائها، فكان طبيعيًا أن ترحب إيران بإعلان تشكيل حكومة السوداني باعتبار أن الإطار التنسيقي تربطه صلات وثيقة مع إيران، ولذلك هنأ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في 28 تشرين الأول /أكتوبر 2022م، رئيس الوزراء العراقي الجديد محمد شياع السوداني بمناسبة منح الثقة لحكومته.

إن زيارة رئيس الوزراء العراقي إلى طهران في 29ـ11ـ2022م، مؤشر إلى مستوى المحاولات الإيرانية باستدامة التأثير على العراق، فالدعوة لزيارة السوداني رغم أنها جاءت بصيغة بروتوكولية إلا أنها عكست مستويات الضرورة الإيرانية لاستمرار العراق كرئة اقتصادية ومجال حيوي لها، ورغم محاولة رئيس الوزراء العراقي تثبيت سياسة التوازن إلا أن ذلك قد لا يكون مقبولاً إيرانيًا وهي تنتظر أثمان تدخلها لصالح حلفائها في العراق.

إن الواقع السياسي الراهن يؤكد النفوذ الإيراني في العراق كبير جدًا، ولا تستطيع الحكومة العراقية تجاهله، مما يعني أن الحكومة ستواجه صعوبة في التعامل مع هذا الملف، وأن الحكومة الإيرانية لا يمكن أن تفرط بمصالحها في العراق تحت أي ظرف، بل قد تعمل على تصدير أزمتها الداخلية الحالية المتمثلة في الانتفاضة الشعبية ضدها إلى العراق.

التجاوزات التركية:

شكلت تركيا هاجس قلق كبير لصانع القرار العراقي في العام 2022م، سيما وأنها عملت على صياغة مسار مبرر لتمددها على مستوي الجغرافية العراقية، إذ أنها تجد أن الكثير من العوامل والظروف والدوافع التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية تساعد وتساهم في ذلك، وربما مع مرور الوقت، تتعدد وتتنوع أساليب ووسائل التدخل والوجود التركي في العراق، وهو ما يمثل مبعث قلق متزايد لدى أصدقاء أنقرة وحلفائها، ناهيك بخصومها ومنافسيها وأعدائها، ولا سيما ما يتعلق بطبيعة وحجم وجودها العسكري والأمني الكبير في شمال العراق الخاضع لسلطة الأحزاب الكردية.

في 27 تموز/يوليو2022م، قدم العراق شكوى ضد تركيا أمام مجلس الأمن الدولي، وأطلقت الفصائل المسلحة العراقية صواريخ على القنصلية التركية في الموصل، وجاءت الخطوتان رداً على القصف المدفعي التركي في 20 تموز/يوليو الذي تسبب بمقتل 9 عراقيين وجرح 33 آخرين في منتجع قرية برخ في محافظة دهوك وشهدت البلاد حينها موجة احتجاجات غاضبة نددت بالقصف التركي واستمراره دون رادع، حيث أقدم محتجون وأصحاب شركات للسياحة والسفر على محاصرة القنصلية التركية في بغداد وتنكيس العلم التركي، احتجاجًا على الانتهاكات الفجة.

وشملت هذه الاحتجاجات مختلف المدن والمحافظات العراقية، أبرزها كان أمام مراكز منح تأشيرات الدخول، مثل كركوك شمالاً، والنجف وكربلاء، حيث حرق المتظاهرون الأعلام التركية، ورفعوا صوراً للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، كُتب عليها “إرهابي.

هذا التصعيد التركي المتمثل بهتين الخطوتين أحدث تطور في الصراع الذي امتد على عقود من الزمن دون أن يستقطب اهتماماً كبيراً، لكنه يتصاعد حالياً كمياً ونوعياً. وقد تكون الميليشيات المدعومة من إيران أكبر المستفيدين من هذه الصدامات إذ تعتبر تركيا بمثابة ذريعة جديدة لكي تقوم الجماعات بشن هجمات خارج إطار الدولة العراق، وإذا استمر المسار الحالي، فهو يهدد بتعريض العديد من المصالح الأمريكية والعراقية للخطر.

تعد التجاوزات التركية انتهاكًا صارخًا للسيادة العراقية والتي تؤشر إلى الحاجة الماسة لغياب قوة الرد العسكري العراقي وإلى أهمية وجود قوة عسكرية عالية المستوى ذات إمكانيات متوفرة على كافة الصعد، سواء الجوية والدفاع الجوي والاستخباراتية، إضافة إلى ضرورة أن يكون هناك تعاون بين إقليم كردستان والحكومة الاتحادية من أجل نشر قطاعات على الشريط الحدودي الفاصل بين العراق وتركيا.

ورغم المحاولات التي قامت بها حكومة مصطفي الكاظمي من خلال تواصل ثنائي لوقف الانتهاكات التركية وكبح جماح هذه التدخلات إلا أن الأمر مرهون بتوفر الإرادة السياسية الحقيقية، لان الضحايا كثيرون نتيجة القصف التركي والتي بدت غير متماسكة أو داعمة لأي خطوة تقدم عليها الدولة العراقية؛ وحتى مع تلويح حكومة الكاظمي بانخراط اكبر لمجلس الأمن لمنع التمدد التركي على الأراضي العراقية الا أنها لم تجد طريقها لحفظ سيادة العراق، وهذا قد يدفع تركيا لمزيد القضم للأرض العراقية في قادم السنوات، في ظل عدم استخدام العراق لأهم ورقة ضغط يمتلكها تجاه تركيا وهي الورقة الاقتصادية والتي يمكن من خلالها إجبار الجانب التركي على التوقف او التنسيق مع العراق خصوصًا وأن حجم التبادل الاقتصادي التركي مع العراق وصل لما يقارب 12 مليار دولار.

واشنطن والانعطاف نحو بغداد:

لم تبذل الإدارة الأمريكية في العام 2022م، على خلاف الأزمات السابقة، جهوداً كبيرة لحلحلة الأزمة العراقية ، فخلال الأشهر التسعة تقريباً الفاصلة بين الانتخابات وانسحاب النواب الصدريين، تُظهر السجلات العامة أن كبار المسؤولين الأمريكيين في وزارة الخارجية و”مجلس الأمن القومي” لم يزوروا العراق سوى مرتين، وأن وزير الخارجية أنتوني بلينكن لم يجر سوى عدد قليل من المكالمات مع صناع القرار في العراق في محاولةٍ للتأثير على التطورات على الأرض، وربما تكون السفيرة الأمريكية الجديدة المتميزة إلى العراق ألينا رومانوسكي قد ضغطت أيضاً من أجل حل هذه المسألة بعد وصولها إلى بغداد في حزيران/يونيو 2022م ، ولكن من خلال ما يظهر من الأمر، فعلت ذلك من دون دعمٍ كافٍ من واشنطن؛ ولم يكن غياب انخراط إدارة أمريكية رفيعة المستوى في محاولات العراق لتشكيل حكومة بعد الانتخابات مجرد إغفال غير مقصود، بل قراراً متخذاً عن سابق تصور وتصميم،  ويبدو أن خطة الإدارة الأمريكية كانت تقضي بـترك العراقيين ليحلّوا مشاكلهم بأنفسهم.

جرت العادة أن لا تدلي واشنطن برأيها حول نتائج الانتخابات في دول أخرى، وتفضل بدلاً من ذلك التركيز على دعم المؤسسات، لكن العراق ليس بلداً عادياً بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية ، بالنظر إلى أن الحكم الديمقراطي الناشئ فيه يواجه العديد من الصعوبات في ظل الضغوط التي تمارسها الذراع الإيرانية الطويلة النافذة في العراق تحت مظلة الفصائل المسلحة  التي يبلغ قوامها حوالي ما يقارب 120 ألف عنصر، وقد تكون الانتخابات التي شهدها العراق قد ساهمت في نهاية المطاف في إضعاف قبضة إيران الخانقة على البلاد، لكن فك الارتباط الأمريكي خلال عملية تشكيل الحكومة ترك فراغاً لم تتأخر طهران في إشغاله.

بعد تشكيل حكومة السوداني تجدد الخلاف حول الاتفاقية الاستراتيجية  الموقعة في عام 2008م، واتضح الخلاف بين الجانبين عندما أعلن السوداني في أول مؤتمر صحافي يعقده كرئيس للحكومة في 1 نوفمبر ” إلى أن لديه تخويل وتفويض من القوى السياسية بإجراء حوار مهني فني مع قوات التحالف الدولي التي تقودها الولايات المتحدة في بلاده “لتحديد الحاجة من تواجد التحالف الدولي كأعداد تتعلق بالمستشارين وكمهام للتدريب والمشورة وتبادل المعلومات، وفي ضوء ذلك ما سيتمخض من قرار حكومي ستلتزم به كل الأطراف السياسية وسنشرع باستكمال هذا الحوار وفق ما مخطط له” ، وبعد ساعات ردت السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوسكي مؤكدة إن بلادها لن تنسحب من العراق ولديها التزام طويل الأمد مع هذا البلد وأولويات منها تنفيذ الاتفاقية الاستراتيجية الموقعة بينهما عام 2008م، وأضافت السفيرة ” أن الإدارة الأمريكية ستقدم الدعم اللازم للحكومة الاتحادية برئاسة السوداني في مجال مكافحة الفساد المالي والإداري وإجراء إصلاح على القطاع الاقتصادي في العراق”، وأكدت إن لدى بلادها التزام طويل الأمد ولن تبتعد عن المنطقة مشددة على رغبة الولايات المتحدة في استمرار التعاون مع العراق”.

ركزت واشنطن خلال شهري تشرين الثاني وكانون الأول من العام 2022م، على مقاربة جديدة للتعاطي مع العراق وبدأت استدارة مدروسة نتيجة الحاجة الأميركية لترميم علاقتها في المنطقة لضمان امدادات الطاقة فضلاً عن الضغط بشكل أكبر على إيران في الساحة العراقية، مما جعلها أكثر انغماسًا خلال هذين الشهرين من نهاية العام 2022م، وبذلك ستضع رئيس الوزراء العراقي في محطات اختبار لمواقفه تجاه السياسة الأمريكية في العراق أو في المنطقة أو اختبار قدرته للابتعاد التدريجي عن إيران.

العلاقات العراقية / العربية:

 

استمرت علاقات العراق مع دول مجلس التعاون الخليجي بالتحسن في عام 2022م، في ظل توجه رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي لذلك، وتبلور تلك العلاقات من أجل التعاون المشترك لواجهة الإرهاب، وتطور العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية والأمنية والاستثمارية والثقافية، ومحاولة إقامة التوازن العربي  في العراق من خلال خلق بيئة  للتعاون العراقي – الخليجي على أساس أن العراق بحاجة إلى الاستمرار بعلاقاته مع دول المجلس كي يستعيد دوره العربي،  مع الدعم الأمريكي والأوروبي لخطوات التقارب العراقي – الخليجي، وأن يكون العراق ضمن محور الاعتدال العربي، مع دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن .

مع تولي الحكومة الجديدة مهامها في الربع الأخير من العام 2022م، يبدو أن العلاقات مع الدول العربية لم تتأثر كثيرًا في ظل فلسفة الحكومة التي أعلنت عن اتخاذها مبدأ التوازن في علاقات  العراق الخارجية، فبغض النظر عن لون الإطار التنسيقي الغالب على الحكومة الجديدة، فإن أغلب دول الجوار العربي تريد إقامة علاقات قوية مع العراق، للحفاظ على المصالح العربية المشتركة وكذلك تدرك دول الخليج العربية أنها كلما ابتعدت عن الشأن العراقي، سوف تمنح خصومها إيران وتركيا، فرصة سانحة للتأثير والمنافسة على حساب مصالحها ومكانتها في المنطقة.

وبمراجعة سريعة، نجد أن العلاقات السعودية / العراقية وصلت ذروتها خلال فترة حكومة مصطفى الكاظمي، سواء على مستوى اللقاءات والنشاطات البروتوكولية والمزيد من التفاهمات والتي ترجمت إلى اتفاقيات وتعاون مشترك واضح وعملي، ومن خلال التصريحات التي أعلن عنها رئيس الحكومة الجديد محمد شياع السوداني، يبدو أنه لا يريد الدخول في مشاكل مع دول الجوار العربي لاسيما وأن هناك الكثير من الملفات العالقة معها، كذلك فإن زيارة السوداني في الشهر الأول من عمر حكومته للأردن ودولة الكويت والمملكة  العربية السعودية لحضور القمة العربية – الصينية ، تؤشر الرغبة بالتفاعل مع المحيط العربي لكن تبقى أزمة السوداني داخليًا في داعميه الذين يرفضون أي توجه أو تفاعل عراقي مع الدول العربية.

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author