المسلة

المسلة الحدث كما حدث

المراجعات السياسية

17 يناير، 2023

بغداد/المسلة: ابراهيم العبادي

يشتد الجدل بين تيارين داخل جماعة الاخوان المسلمين المصريين بشأن طباعة تفسير سيد قطب  الشهير ( في ظلال القرآن) ،فقد اقدم باحث على متابعة كتابة التفسير زمنيا والذي امتد على سنوات ،  حيث اضيفت اليه الافكار المستجدة لدى سيد قطب في مرحلة  الصدام مع نظام جمال عبدالناصر (1918-1970)  منذ  حادثة المنشية عام 1954 ،والسنوات التي تلتها والتي انتهت باعدام قطب عام 1966.

ان قيام  (اخوان لندن)  بتشجيع نشر الطبعة الجديدة التي لاتحوي   افكار قطب التي جنح فيها الى  (المفاصلة الجذرية ) التي ضمنها كتابه (معالم في الطريق ).بمافيها من اعتزال للمجتمع (الجاهلي )والتحريض على قتال (السلطات الجاهلة ) ، تشكل  محاولة للتراجع عن نهج اعتُبر متطرفا ومشجعا على ولادة حركات التكفير ، التي تناسلت وانتهت اخيرا بحركات الارهاب المتوحش كالتي تمثلها  القاعدة وداعش والشباب الصومالي وبيت المقدس واخواتها الكثيرات .

العبرة في هذا الحدث ،ان الجدل بين تياري الاخوان او مايعبر عنه ، بين منصة لندن المعتدلة وبين منصة اسطنبول المتشددة ،هو مايكسب الموضوع اهميته الكبيرة ،تيار لندن يرسل رسائل ويقدم مؤشرات على ان الاخوان يجرون مراجعة فكرية وسياسية ،  وانهم لايريدون المضي بالطريق الذي رسمته افكار سيد قطب السجين ، وليس سيد قطب الاديب الرقيق الشفاف ،في الاولى قضى الاخوان نصف قرن بين صراع وقتال وجهاد ومعارك استنزاف وسجون وتشرد ومحاكم.

والثانية فيها  اشارة الى ان الطريق الى الاسلمة  او الحكم الاسلامي ،  لايقتضي بالضرورة امتطاء افكار سيد قطب المتأخرة المأزومة بظرفها الصدامي ، والتي انحصر فيها الصراط المستقيم وصار المشي فيها انتحارا ، والحياة منازلة صفرية كبرى تحاكي سنوات الدعوة الاسلامية في مكة المكرمة .

الزمن كفيل بتليين الافكار والتصورات والمباديء التي تبدو للوهلة الاولى انها خطوط حمر وفيصلا بين الاسلام والزندقة .

للظروف احكامها وللازمنة اشتراطاتها ،والتمسك بنمط فكري ومنهج سياسي صراطي لايعكس مبدأية وصرامة اخلاقية والتزاما حرفيا ، بل هو في حقيقته جمود وانفصال عن فهم الواقع ومعادلاته ومشكلاته وتعقيداته ،لايخسر الانسان دينه ومبادءه والتزامه الاخلاقي اذا ما وائم بين الاساليب والاهداف وخبر فقه الاولويات والنوازل والاضطرارات ، ولجأ الى  خيارات  متجددة ،  واعاد مراجعة الافكار والمواقف والاساليب ،واستفاد من العطاء الفكري والعلمي والمعرفي على سعته وتواتره .

الاخوان المسلمون اذن في بداية مراجعة ،انها بالتاكيد طريق طويلة ستأتي بفكر معتدل ورجال قادرين  على التعامل مع واقعهم المتغير ،وهذه اول علامات مغادرة الفكر الاحادي وماانتجه من بلاءات وكوارث !!.

ليس الاخوان وحدهم  من يراجع مسيرته ،هناك تجارب صغيرة تنمو  ،في السعودية مثلا  تجري الجماعات الاسلامية المتشددة ،السنية والشيعية مراجعات هادئة ،  ينتظر ان تسفر عن رؤى ومسلكيات جديدة ومصالحات بين المجتمع والسلطات ،وبين الافراد ورؤيتهم لتاريخهم وحاضرهم ،  والافكار التي اعتنقوها وجعلوها نهاية العالم ومن دونها الضلال !!! .

تنتج افكار المراجعة استبصارات بالايديولوجيات والظروف التي انتجتها، والشعارات التي جسدتها والاهداف التي رسمتها ، لاتنتهي  المراجعات بالتراجع عن الحق والمباديء ،انما رؤية متجددة للحق والمباديء ،لاتحتكرها رمزيات عاشت  عصرها ،  ولم يمتد نظرها الى ماهو ابعد منها  ،أو نظريات وليدة ظروفها ،كانت ترى المصلحة والحق من زاوية نظرها المحدودة .

المراجعة تحتاج الى شجاعة واعتراف ورؤية واسعة ، واٍحاطة بالتجارب وقراءة للتاريخ وخيال مستقبلي واخلاص وتجرد ،المراجعة لاتقتصر على المسلمين او الاسلاميين وحدهم ،بل ان البشر جميعهم محتاجون الى المراجعة ،الاخطاء والوقائع تفرض نفسها على العقول الحصيفة ،تخيلوا لو ان الحزب الشيوعي الصيني بقيادة الاصلاحي الجريء دنغ شياو بنغ  لم يجر تعديلا على نظريته الاقتصادية (الماركسية -الماوية )  عام 1979 .

هل كانت الصين قادرة على الانتقال  من بلد نام فيه 200 مليون فقير  الى بلد ينافس على قمة العالم في الاقتصاد والمال والتكنولوجيا وتنمو هذا النمو المدهش خلال 40 عاما ؟ .

لو ان فيتنام لم تنتبه لحالها وفقرها وازماتها في  عام 1986 ، و لم تتخذ قرارا جريئا بالتصالح  مع من دمرها وحاربها 10 اعوام بقنابل النابالم التي احرقت الزرع والضرع والبشر ، كيف  لنا ان نتخيل حالها  ؟ كان قرارا محسوبا بعناية ،  فيه تعال على الجراح و الاحقاد والثأريات والعواطف ، قرار جعل شيوعيي فيتنام الذين يعدلون  بالفقر ويرتعون بالتخلف والعسر يرتقون ببلادهم  الى نمر اسيوي مزدهر ،  تصنع كل شيء ،  وتنافس الصين والهند على اجتذاب رؤوس الاموال الامريكية والغربية .

كان وراء ذلك قرار ،قرار جاء بعد مراجعة جريئة ، انتصر فيه فكر الحياة والمستقبل على فكر التزمت والتشدد  و(عدالة !! )الفقر  والطوباوية .

يتغير العالم من حولنا ،تنتكس تجارب وتندثر مواقف وسياسات  ،وتبزغ افكار وتجارب جديدة ،  ويتعلم الاذكياء من التجارب الثرية ، فيما يلهث اخرون وراء تجارب آفلة أو في طريقها الى الافول ، اين نحن من كل ذلك ؟ فهل نقرأ العالم بعيون مفتوحة ام بأذان صماء ؟ .


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.