المسلة

المسلة الحدث كما حدث

المثقفون في العراق مادورهم؟

17 أبريل، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

ابراهيم العبادي

كُتب الكثير عن المثقفين وادوارهم ،فمنذ نجاح المثقفين الفرنسيين في الافراج عن الضابط الفرنسي درايفوس الذي حكم عليه بالاعدام عام 1884 وقبلها ماكتبه المفكرون البولنديون عن المثقفين وفئة الانتلجنسيا ودورهم التنويري في بولندا نهاية القرن الثامن عشر ،مرورا بمساهمة المفكر الايطالي انطونيو غرامشي (ت1936) وحتى الكتابات المتأخرة عن الثقافة والمثقفين كالذي انجزه ادوارد سعيد( ت 2003) عن المثقف والسلطة وصور المثقف والثقافة والامبريالية ، وكتاب المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري (ت2010)المثقفون في الحضارة العربية ،تراكم تراث معرفي كبير عن الثقافة والمثقفين وسوسيولوجيا الثقافة واشتغالاتها بشكل عام.

في بلادنا العراق لم يكتب الكثير عن المثقفين العراقيين ومسؤولياتهم ومساهماتهم الفكرية والتغييرية والنقدية ، كان ذلك مفهوما ومعلوما بسبب هيمنة الشمولية والاستبداد ردحا طويلا وبسبب الصراع الفكري والايديولوجي الذي انخرط به مثقفون عراقيون توزعوا بين تيارات قومية وماركسية واسلامية، ومن طبيعة الصراعات الايديولوجية انها تترك ظلالا من التشكيك في قيمة الافكار وتأثيراتها الاجتماعية وطبيعة تلقيها في البيئة المجتمعية ،برز الراحل علي الوردي (ت1995) بوصفه مثقفا نقديا ساهمت اطروحاته النقدية في اثارة نقاش اجتماعي عام بشأن قضايا جوهرية يحفل بها الواقع العراقي ،مما له ارتباط بالشخصية والسلطة والتخلف الاجتماعي والسلوك السياسي والتعصب مقتحما مناطق ممنوعة نوعا ما، ولم تتغلف مواقفه بصبغة ايديولوجية، فكان نموذجا للمثقف المستقل المكون تكوينا علميا ومعرفيا جيدا ، وذا رسالة تنويرية وتغييرية جعلت من اطروحاته محور الجدل العام بين موافق ورافض وناقد وشارح ،وحركت مياها راكدة كثيرة، وكشفت طبقات من الوعي الزائف والعلاقات التسلطية التي كبلت حياة العراقيين افرادا ومجتمعا ، وكلها مشكلات بنيوية اعاقت تنمية المجتمع واستقرار الدولة وساهمت في تغول السلطات ، ثم انتجت لنا هذه التوليفة العجيبة من ثقافة الصراع والتغالب والعنف والتفاخر والارتكاس في التخلف الاجتماعي بكل تصنيفاته بدون اكتراث لذلك ،حتى وصلنا الى مانحن عليه من امراض مجتمعية وسياسية ، ابرزها انتشار العنف وسيطرة علاقات القوة على الدولة ، وانخفاض انتاجية المجتمع وسوء الاداء والعيش الاستهلاكي على الريع النفطي وتراجع مؤشرات التنمية وصعود مظاهر التعاسة والقلق الدائم على المستقبل.

جسد الوردي انموذج المثقف المستقل وليس المثقف التقليدي الملتحق بالسلطة ولا مثقف التيارات الايديولوجية والداعية المتحمس لها ،يعود ابرز مشكلات الثقافة والمثقفين وتراجع ادوارهم الى ظاهرة تصنيف المثقف وفقا لمنحدره الطبقي والاجتماعي وانتماءه السياسي وربما المكاني والمذهبي ،يربط الكثير من الباحثين بين المثقف العراقي ونشوء الطبقة الوسطى ،ويتواصل الجدل في الوسط العلمي والثقافي بين تدهور دور المثقف وبين تراجع الطبقة الوسطى ذات المصلحة في الاستقرار السياسي والحرية الاقتصادية والنظام الديمقراطي التمثيلي المجسد لمصالح القوى المجتمعية ،وحيث هيمنت الشمولية والقمع والحصار والفقر والافقار فيما سبق وانهارت الطبقة الوسطى كاملا ،لم يكن متيسرا الحديث عن مثقف عضوي منحاز الى المجتمع ومدافع عن الحريات وكاشف لطبقات التسلطية داخل البنية الاجتماعية والسياسية وناقد للدوغماتية ،بل كان المثقف ينوس بين الالتحاق بالسلطة وبين الهروب من مخالبها الى حيث المنافي ودور الهجرة والتهجير والمراقبة عن بعد وربما دون معايشة مباشرة ، بعدما سقطت الشمولية كان متوقعا ان يستعيد المثقف النقدي دوره لكن شيوع الاحتراب السياسي جعل الدفاع عن الوجود والبقاء قيد الحياة أولوية حياتية لدى الافراد اتقاء لشر العنف والصراع الهوياتي وأدى ذلك الى ظهور سلوكيات الاستسباع السياسي والطفيلية المالية المحمية بجماعات الدفاع عن مصالح الطوائف والقوميات ،ثم ظهرت مكاسب الحالة الانتقالية نتاج الاضطراب والقلق السياسي ، لتشيع قيم ومعايير سلوكية جديدة اضافت مشكلات جديدة للمشكلات السابقة التي عانى منها العراق ،لذلك كان الحديث عن دور االمثقف في مجتمع خارج من الحروب والعنف ويعيش علاقات سلطة تقوم على التنازع والصراع نوعا من البطر والاوهام ،فليس هناك سوقا لبضاعة المثقف الفكرية والتنويرية لدى جمهور محبط مشغول باولويات تفرضها انساق القوة والسلطة وسباق الجري على الثروة وأوهام العيش الرغيد والحصول على الجاه الاجتماعي والموقع السياسي النافذ ، في هذه الاحوال يبدو المثقف العراقي باحثا عن دور غير متاح له ،انه يعيش اغترابه النفسي والواقعي والعملي بين الوظيفة والدور المفترض ، وبين تقلص مساحات الفعل والتأثير فهو محاصر بين حزبية راسخة غير مرئية ،وبين امكانات شحيحة ومساحات مغلقة ،أخطرها انغلاق الوعي الاجتماعي على الهامشي والسطحي من الاهتمامات ، في حين تتجه الدولة والمجتمع الى وجهات غير أمنة سياسيا واقتصاديا ، ويتدهور الراسمال الاجتماعي والثقافي الى مستويات متدنية تسودها قيم العشيرة والطائفة، وتنحدر فيها السلوكيات السياسية والمجتمعية الى مزيد من الانحطاط الاخلاقي دونما وقفة جادة لمنع هذا الارتكاس المتزايد ،لدينا مشكلات كبرى وكبيرة تبتدأ في اصل العلاقة بين المواطن والدولة وتمر بالهوية والاحزاب ووجهة المجتمع المستقبلية وامن البلاد وتنميتها وطرق اقتسام السلطة والثروة وتوزيع الدخل وبناء الانسان والثقافة والتعليم وتكوين الراسمال الثقافي وعلاقة كل ذلك بالقوانين والمؤسسات والادارة والتخطيط وقيادة العملية السياسية التي تنبثق منها رؤية السياسات العامة.

الدعوة الى تفعيل دور المثقف وافساح المجال لعالم الافكار الهاديء وليس الصراع على الاشياء في هذه المرحلة ، يمنح المجتمع فرصة لاعادة التفكير في الواقع المأزوم والمستقبل المجهول ،يبدو التوقف في محطات للمراجعة ضرورة لتحريك العقل الجمعي المستقيل ،وهذه هي مهمة المثقف وحده ،فستمضي الحياة بنا وتتعاقب الاجيال وسيكتب التاريخ عن مستويات الوعي في العراق ودور الثقافة والمثقفين ،وعندها سيكشف الباحثون الموضوعيون عن المقصرين والمتخلفين عن اداء مسؤولياتهم ورسالتهم الانسانوية والقيمية ،وستكتشف الاجيال من هو المثقف الواقعي صاحب الرسالة الحريص ، و بين مدعي عنوانات الثقافة والرمزية الثقافية والمتكلف بها ،بين المثقف النقدي الملتزم وبين مسوق البضاعة (الثقافية )بعناوين مختلفة سعيا وراء موقع في هرمية السلطات.


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لا يعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.