المسلة

المسلة الحدث كما حدث

العراق ومشروع الدولة الحضارية

العراق ومشروع الدولة الحضارية

22 أبريل، 2023

بغداد/المسلة الحدث: عادل شريف الحسيني*

لم يتسنى لي زيارة بغداد والتجول في شوراعها وأعيش أجوائها الاجتماعية منذ خروجي من العراق للدراسة عام 1987. نعم زرت العراق مرات منذ 2009 ولكنها زيارات قصيرة لاسباب اجتماعية بالدرجة الاساس. زيارتي الاخيرة في شباط 2023 امتدت لمدة شهرين، زرت خلالها بغداد وبعض اسواقها واماكنها التاريخية والتراثية. كذلك زرت محافظتي النجف الاشرف وكربلاء المقدسة ومراقدهما المقدسة وبعض المواقع التاريخية المهمة. كذلك زرت بابل الاثرية، بابل الحضارة والتاريخ والإبداع والإخلاص بالعمل والبعد الإنساني.

تغير الكثير في العراق في العقود الاربعة الاخيرة -تغيير إيجابي في مجالات محدودة وسلبيًا في مجالات عديدة. لايسع المجال هنا ولست بصدد تحديد الإيجابيات المحدودة والسلبيات الكثيرة ولكن لابد من الإشارة الى نقاط إيجابية مهمة وجوهرية وهي ان ذكاء وإصرار الشعب العراقي لم يتغير ولكن سوء إدراته لإمور بلده مستمرة وكبيرة.

الشعب العراقي شعب ذكي بالفطرة وربما مرتبط ذلك بالارض والبيئة. لولا هذا الذكاء الطبيعي والإصرار لإنهار كل شيء في العراق في ظل الحروب العبثية والحصار الظالم واستشراء الفساد الذي تعرض له العراق منذ عقود. هذا الذكاء المتميز والإصرار المتأصل جعل من الشعب العراقي مادة اولية نادرة ومتميزة لبناء دولة متقدمة وحضارية. ذكاء الشعب العراقي المتميز ربما هو الذي جعله أقل تنظيما لان طبيعة معظم الاذكياء لايحبون الروتين والتكرار والاهتمام بالتفاصيل ومثال على ذلك الشعب الايطالي والذي يعد من أذكى الشعوب الاوربية ولكنه ربما اقلها تنظيمًا.

هذا يجعل العراق بحاجة ماسة لإدارة منظمة وخاصة في قطاع الادراة الوسطى Middle management, وهذا يتطلب تدريب وتأهيل الكوادر البشرية العراقية على الإدارة الحديثة والاستعانة بخدمات الأجانب من بلدان أخرى بكلفة أقل وأكثر مهارة مثلًا شعوب شرق آسيا. بالاضافة الى ذلك إعتماد التكنولوجيا في الإدارة العامة والخدمات وفي كافة المجالات سوف يوفر الوقت ويقلل الكلف ويحارب الفساد ويسرع التطور والتقدم الخ.

إن مايحتاجه العراق اليوم للسير في ركب المدنية والتقدم هو الخروج من دائرة الإعتماد المنفرد والمفرط على النفط والذي يهدد استقراره السياسي والاجتماعي والاقتصادي وأمنه القومي الى تنويع الاقتصاد من خلال الاستفادة من عوائد النفط والاستثمارات الخارجية لتطوير الزراعة والصناعة والسياحة والتعليم.

يبدوا إن هناك التباس في أذهان البعض للتمييز بين النمو والتطور والتقدم. النمو ليس بالضرورة تطورًا إذا كان في مجال توسع البناء والقدرات الشرائية والترفيهية فقط. مقياس التطور والتقدم في العالم هو “صُنع في وأُنتج في وأُبتكر في ودَرس في” وهذا يتطلب تطوير الصناعة والزراعة والتعليم. يجب أن يكون النمو مواكبًا للتقدم progress induced growth وليس النمو بسبب كثرة الأموال وإنفاقها على البنايات والمطاعم والمولات دون خطط إستراتيجية وبرامج تنموية.

العراق يملك كل المقومات والأسس من القدرات البشرية والثروات الطبيعية والموقع الاستراتيجي ليبني دولة حضارية تعيد له رمزيته التاريخية وتفوقه المستمر وفي كل المجلات العلمية والثقافية والانسانية, مستفيدًا من دروس الماضي ومستغلًا لقدرات وإمكانيات الحاضر ومخططًا للمستقبل وفق رؤية وطنية شاملة ومتكاملة موظفا لذلك كل الاختصاصات والقابليات والمهارات العراقية في الداخل والخارج.

العراق اليوم يواجه تحديات جسام اخطرها الجفاف والتغير المناخي لأنهما يهددان وجوده والحياة فيه، وكذلك تحدي الفساد والذي يهدد استقراره السياسي والاقتصادي والاجتماعي وموقعه بين الدول ويؤخر تقدمه وبناء مشروعه الحضاري والانساني.

تحديات الجفاف والمناخ أخطر من الارهاب لانه يمكن الصمود أمام الارهاب ومحاربته سنين ولكن لايمكن العيش أيام معدودة بدون ماء. وعليه العراق يحتاج إدارة موارده المائية بطرق حديثة والبحث عن مصادر جديدة للمياه مثل المياه الجوفية وتدوير المياه المستخدمة وتحلية مياه البزل والبحر لتحقيق الامن المائي. لأن كلفة اي نزاع داخلي أو خارجي ماديًا وبشريًا وبيئيًا حول المياه وبسبب شحتها سيكون أكبر بكثير من كلفة الحلول التقنية والتي يمكن الإطلاق عليها أدوات “السلام الأزرق”.

العراق كذلك يحتاج حل لمشكلة الكهرباء المستعصية باخراجها من دائرة المناكفات والأجندات السياسية وتطبيق أفكار المختصين والخطط الوطنية وفي كافة مراحل إنتاج ونقل وتوزيع الكهرباء بالإضافة الى الجباية العادلة والاستفادة من التقنيات الحديثة مثل الشبكات الذكية والمقاييس الذكية الخ.

بناء الدولة الحضارية يحتاج توفير الحاجات الأساسية من المياه والطاقة والغذاء لتحقيق الأمن القومي والاستقرار السياسي.

العراق كذلك يحتاج الى تعاون وتنسيق بين كل أطياف وشرائح المجتمع العراقي من المرجعيات الدينية والاجتماعية، متمثلة بشيوخ العشائر ورجال الدين، والثقافية متمثلة بالمفكرين والإعلاميين والكتاب والفنانين، والمهنية متمثلة بكل القطاعات الوطنية الخدمية والتشريعية والتنفيذية. هذا التعاون والتنسيق يجب أن يكون قويًا وحاسمًا في نبذ الخلافات المفرقة اياً كان مصدرها سواء كان ديني او مذهبي أو قومي أو أيدلوجي والعمل سويًا لبناء الدولة وحماية الوطن وخدمة المواطن. هذا التعاون كذلك يجب أن يكون في محاربة الفساد لأن معظم أفراد المجتمع العراقي يمتلكون الأدوات التقنية الحديث لتوثيق الفساد وكشفه وبالتعاون مع الجهات الحكومية المعنية لتقويضه.

إستقلالية القضاء من أهم تقاليد الدول الديمقراطية والدولة الحضارية. في بريطانيا على سبيل المثال هناك عرف وتقليد قضائي ان هناك شيئ أجمل من العدل وهو “إظهار العدل” لان تحقيق العدل ينصف المظلوم بينما إظهار العدل يبعث برسالة اطمئنان للمجتمع كله ويجعله يثق أكثر بنظامه القضائي ويدفعه للتعاون معه وهذا يتحقق التكامل في المسؤولية المجتمعية ويجسد مبدء “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته”.

لايوجد أدنى شك لدي بقدرة العراقيين في بناء دولة حضارية متميزة ومتقدمة يسودها العدل والإنصاف الاجتماعي يتكامل فيها العلم والإيمان في حدود الوطن العراقي الكبير الذي منحنا الرمزية التاريخية والاسم اللامع في سجل الحضارات والإنجازات المتميزة وفي كافة المجالات.

في أرض العراق ولدت أور والتي تعني “النور” بالآرامية وفي عصرنا الحاضر عصر النور والتقدم العلمي والتكنولوجي فان العراق قادر أن يصنع أوراً جديدة حضارية وتقدمية وإنسانية…

* إستاذ هندسة المياه والطاقة المتجددة -جامعة سري البريطانية

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.