بغداد/المسلة الحدث: نعمه العبادي
لم يشغل البشرية بمختلف توجهاتها سؤالا اكثر مما شغلها سؤال الاخلاق، فقد سئلت الفلسفات الاولى وكل محاولات التفكير عن : معنى الاخلاق؟ أصل الاخلاق؟ نسبية او اطلاق الاخلاق؟ المشترك والخاص منها؟ لماذا الاخلاق؟ ماذا لو لم تكن الاخلاق؟ ما هو الاخلاقي وغير الاخلاقي؟ ما هو المرجع في الاخلاق؟ لماذا نختلف بشأن الاخلاق؟ هل الاخلاق امر ذاتي ام موضوعي؟ هل تطلب الاخلاق لنفسها ام لغيرها؟… الخ من الاسئلة الفرعية التي يمكن توليدها من هذه الاسئلة.
عند النظر في هذا الجدل الفكري القديم الجديد، هناك مجموعة اشكاليات يمكن انتزاعها من كل ما قيل تلخصها المحاور الرئيسة الآتية:
– هل النزوع الى الاخلاق أمر فطري أم مكتسب؟
– ما الذي يجعل الاخلاق ضرورة وما الذي يلزمنا للتقيد بها؟
– ما هو منشأ الاخلاق؟
– ما هو المرجع عند الاختلاف على امر ما من كونه اخلاقيا من عدمه؟
– هل القيم الاخلاقية نسبية تتبدل مع تحولات الحياة، بحيث يمكن لأمر ما لم يكن اخلاقيا يصبح اخلاقيا في ظل تطورات الحياة والعكس صحيح؟
– هل هناك بديل عن الاخلاق؟
– ماذا تخسر الانسانية لو تخلت عن الاخلاق؟
– ما هي العلاقة بين الاخلاق والدين؟
– ما هي العلاقة بين الاخلاق والمصلحة؟
– ما هي العلاقة بين الاخلاق والسياسة؟
تتمثل عقدة معظم الاشكاليات اعلاه فيما عبر عنه المفكر الشهيد محمد باقر الصدر رضوان الله عليه باللذة المؤجلة، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في وصف الفارق بين المؤمنين والمشركين عند معالجة تبعات الحرب بقوله تعالى: ” وترجون من الله ما لا يرجون”، فجوهر التساؤل الظاهري والضمني يتلخص في المردود الذي يمكن ان نحصل عليه جراء إلتزامنا بالاخلاق، بل ولماذا نتحمل تبعات مادية ومعنوية يفرضها إلتزامنا بالكثير من الفضائل الاخلاقية؟
تعد الحداثة وما بعدها المنعطف الاخطر في موجة مهاجمة الاخلاق والنيل منها، وجاء ذلك في سياق الهجوم على الدين نتيجة العلاقة الارتباطية بين الاخلاق والدين، إذ قاتلت الحداثة من اجل النسبي في كل شيء مقابل تحطيم كل المطلقات، وعملت على مركزة العقل الشخصي الذاتي بفرديته بوصفه مرجعا أعلى وملهما أوحد مقابل إزاحة الله عن الوجود (بحسبهم)، وهكذا تمت الاطاحة بالعقل والمعنى والفضيلة وقضايا كثيرة.
بلغت هذه الانعاطفة ذروتها مع الصعود المتسارع لليبرالية كمنهج للسلوك الاجتماعي وطريقة للحياة، حيث انتفخت الذاتية من كل جوانبها وكأن قائلهم يقول ” أنا ومن بعدي الطوفان”، وقدمت المصلحة الذاتية بغض النظر عما تتضمنه بوصفها محور حركة الانسان والمجتمع، كما جعلت كل شيء نسبيا مسوغا بحسب تعدد المرجعيات الفردية، ثم طورت مسوغات الافراد من كونها رغبات الى كونها حقوق، وألزمت الآخرين بإلتزامها والمحافظة عليها مهما كانت.
لم تأت هذه الامور بشكل صريح المقصد والعنوان في غالب الاحيان، بل إنمزجت مع مركب معقد سياسي وثقافي واجتماعي واقتصادي وحتى أمني، أشتغل على عملية تنميط منظم، ومركزة تدريجية للافكار والتوجهات، وقد رافق ذلك جهد معرفي مكلف لهذه المهمة قدمته دراسات وبحوث وجامعات ومؤسسات ومسابقات وتأليفات ونشاطات مختلفة، تآزرت مع نظام اقتصادي ومالي محكم، وتحكم سياسي متقن، فأنتج الصورة التي بين ايدينا.
في سياق آخر توجد إشكالية اكثر تعقيدا تتعلق بمحنة الاخلاق في معظم البلاد الاسلامية وفي شرقنا على وجه الخصوص، إذ يثار الاشكال حول المقارنة الشكلية ما بين السلوك الاخلاقي في مجتمعاتنا ولدى افرادنا والمجتمعات الحداثوية والليبرالية على وجه الخصوص، فالحياة هنا متخمة بالفساد والكذب والحيلة والظلم واللاتأدب والتجاوز على حقوق الآخرين وقلة الذوق فضلا عن الانكباب على الكثير من الرذائل الاخلاقية، بخلاف المجتمعات الاخرى التي يطبع معظم سلوكها السمة الاخلاقية، فما هو سر هذا التباين وانقلاب الصورة، إذ اننا الاولى بالسلوك الاخلاقي من غيرنا؟
عند النظر في وقائع الحياة، يظهر هذا الاشكال مستحكما حد الانغلاق التام، ومن مجانبة الحق عدم الاعتراف بجزء كبير من الصورة المشار إليها إلا ان الاهم هو الحفر والتنقيب فيما وراء الصورة، وتحليل خلفيات هذه الاشكالية المهمة.
تقرر الفلسفة وعلم النفس، ان الدافع هو المبعث والمحرك على الفعل، إذ يتقوم الفعل بدافعه، وهذا الدافع مركب معقد يتكون من مجموعة تصورات واحكام مبنية على ما لدى الفرد من مرتكزات وصور، يتم من خلالها الحكم على جدوى او عدم جدوى الفعل، وعلى هذا الاساس يصدر الايعاز الى الجهاز العصبي الذي يحرك ادواته المادية والمعنوية لإنجاز الفعل، وجوهر المشكلة في هذا المركب تكمن في منطقة التصورات، إذ يعطى فيها لكل شيء معنى وتعريف، وهنا تختلف التعريفات والمعاني.
تتحرك المنظومة الاخلاقية في العالم الليبرالي من منطلق المنفعة الحاضرة، إذ يكسب الانسان جراء فعله الاخلاقي مردودا واضحا، يتمثل في حياة آمنة تحفظ فيها حقوقه ورغباته، كما ان هذه المنفعة تتحول الى سلوك جمعي يحرك النشاط الاجتماعي، ويعلل كل ذلك بالواقعية التي تعني ببساطة حاكمية الواقع (هنا الآن) على كل شيء غيره، فيما يقع الخلل في منظور مجتمعاتنا، فهي لا تلتزم بفلسفة اللذة المؤجلة، ولم تتعقل بفلسفة لذة الواقع الحاضرة.
يقدم الدين في معظم مجتمعاتنا مادة دسمة عن العقيدة والشعائر إلا انه لا يحسن ربط العقيدة بالعمل والسلوك في معظم الطروحات، فالتوحيد فيه بعدان، الاول هو الارتباط بالله والرجوع إليه، والثاني يتمثل في تجسيد معطيات أسمائه الحسنى، فكل أسم من الاسماء الحسنى يفتح فضاءً لا متناهيا من الحركة للكدح الانساني ليتمثل فيها مدلول هذا الاسم، كما ان الارتباط بالنبي واهل بيته سلام الله عليه لا يكون عبر الممارسة الشعائرية فحسب، بل من خلال تمثلهم كأسوة وقدوة، إذ يتم التركيز على البعد الاول من التوحيد دون الثاني وعلى الشعائر والطقوس دون التأسي.
اهملت معظم المدارس الدينية بمسمياتها المختلفة درس الاخلاق كما اهملت درس الفلسفة من قبل، وحتى الجهات التي تقارب درس الاخلاق تذهب به بعيدا في مباحث الاخلاق النظرية لكن
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
طوق أمني حول السفارة الأمريكية في لندن بعد تهديدات
المالكي: قرار المحكمة الجنائية خطوة على طريق العدالة
حماية العراق واجب أمريكي: الاتفاقيات الأمنية ليست حبراً على ورق