المسلة

المسلة الحدث كما حدث

زعزعة الاستقرار

7 أغسطس، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

محمد زكي ابراهيـم

من المعلوم أن هناك مرادفات عديدة للحضارة، تدل عليها، أو تفصح عن محتواها، أو تنطق باسمها، ولا يمكن أن تقوم بدونها. ومن أهمها على الإطلاق: الاستقرار. فهو ركن أساس من أركان البقاء، وعنصر هام من عناصر التقدم. وليس ثمة حضارة يمكن أن تقوم في بلد مضطرب، حتى لو كان يحتكم على ثروات طائلة، ومناخ معتدل، وأرض معطاء، ومياه غزيرة، وغير ذلك من الأمور.

ولم تستطع دول كثيرة في هذا العالم أن تنعم بالرفاهية، والعيش الرغيد، إلا بعد أن أرست أسس الاستقرار السياسي. بل إن الديمقراطية التي باتت مدار الحديث في جميع بقاع الأرض، هي إحدى وسائل الاستقرار هذا !

وقد أدركت بلدان شرق آسيا هذه الحقيقة، فنبذت عنها كل ما له صلة بالصراعات السياسية والحدودية والدفاعية، بعد الحرب الكونية الثانية، وانصرفت عنها نحو البناء والتحديث والإعمار.

وكان من أهم أهداف الدولة العبرية التي أقحمت في قلب العالم العربي، الحيلولة دون استقرار المنطقة، ومنع انتقالها إلى طور جديد من أطوار الحضارة. ذلك أن المستعمرين السابقين، وهم يدشنون هذا الكيان الغريب، لم يغب عن بالهم أن العرب لن يقبلوا بهذا الوضع، ولن يرضخوا له. وسيدخلون معه في نزاعات طويلة. وقد داعب حلم الاستقرار زعامات عربية عمدت إلى الخروج من دائرة هذا الصراع. لكنها لم تستطع أن تحقق ما تمنته. فالقبول بوجود نقيض في المنطقة، يوجع الضمير العربي والإسلامي، ويمنعه من الركون إلى الدعة والسكون.

في الآونة الأخيرة بدأ العراق يتجه نحو الاستقرار النسبي، بعد أن هزم السلفيين الجدد، وشتت شملهم، وأخذ يسير بخطى متسارعة نحو معالجة مشاكله المستعصية. ولم يرق مثل هذا الأمر للكثير من الجماعات، التي وجدت فيه مقدمة لفنائها التام. فحينما يدخل المجتمع في دورة جديدة من الوئام، تسود فيه قيم العمل والإنتاج، لا يبقى ثمة مكان للطارئين والعابثين. لأن الحضارة تستأصل أورامها الخبيثة أولاً بأول.

وآخر ما تفتقت عنه عقولهم الصدئة، افتعال الأزمات، مع بلد عربي مجاور، دون مسوغ. ودون أن يصدر عنه ما يعكر صفو العلاقات الثنائية. وكان هو أحد ضحايا الحروب العبثية التي افتعلت في أواخر القرن العشرين. وبدأ التلويح بمسألة إعادة ترسيم الحدود التي جرت بمبادرة دولية في عقد التسعينات. وأخذ الموضوع يثير حمية الأشخاص الذين كانوا يشعرون بالمرارة من هزائم النظام السابق الفادحة. وبدأوا يمنون النفس بصفحة جديدة من اضطراب حبل الأمن، وزعزعة الاستقرار.

إن من الصعب أن نتخيل أن دولة صغيرة مثل الكويت، تقوم بإثارة مواضيع خطرة، مع بلد كبير مثل العراق، وتعمل على استفزاز نزعات عسكرية خامدة فيه. كل ما في الأمر أن هواة التوتر والفوضى، يقومون – إرضاء لنزواتهم الفجة – للتلويح بفصل جديد من الحروب، يدفعون المجتمع والدولة للغرق فيه، باسم الكرامة والوطنية.

ومن الغريب أن تنساق بعض النخب الثقافية إلى هذه المصيدة، وتتحول إلى داعية حرب، تحت عنوان نموت ويحيا الوطن! وليس ثمة تفسير لهذه الظاهرة سوى تخلخل الوعي. مع أن الثقافة الحية لا تزدهر ولا تنمو إلا مع الاستقرار.

فهل سيتاح للعراق أن يتعالى على جراحه، ويشرع في ترميم ما خربته الحروب، وعلاج ما تركته من ندوب، ويسير بخطى واثقة نحو الحضارة، أو سيبقى أسيراً لمثل هذه الجهات الشعبوية الجاهلة إلى أمد غير معلوم؟


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.