المسلة

المسلة الحدث كما حدث

الكراهية و السياسة في العراق

27 يونيو، 2022

بغداد/المسلة:

ابراهيم العبادي

يولد العراقي وهو يحمل مشاعر سياسية ،وتتكفل التنشئة الاجتماعية بترسيخ تلك المشاعر وفقا لمنظومة الاعتقادات والقيم والهوية الاجتماعية ، ثم ينمو الفرد ويتكامل وعيه وهو يتفاعل مع البيئة الخارجية فيحاول تكييف منظوراته طبقا لخبراته ومعارفه ومدركاته لهذا الواقع، انه في الحقيقة يخضع لعملية تنشئة سياسية يكتسب خلالها الاتجاهات والثقافة والمعارف التي تصوغ ارائه السياسية، كما يقول (1977باولكا) في تعريفه للتنشئة السياسية، في حين يعرفها (لانغتون،1969)بانها الوسيلة التي يحاول خلالها المجتمع نقل تراثه الثقافي من جيل الى اخر ،وهو في ذلك يعمل على المحافظة على القيم السياسية،التنشئة السياسية هنا تقتصر على نقل الموروث السياسي والاجتماعي .وهو عنصر مؤثر في تشكيل السلوك السياسي للافراد.

سقت هذه المقدمة لاطرح السؤال التالي ، الى اي حد تتحكم مشاعرنا وانفعالاتنا في تشكيل مواقفنا من مجمل مايدور حولنا ؟ وكيف تؤثر تصوراتنا المستدمجة مع مشاعر الكراهية والغضب من الاخر في صياغة سلوكنا السياسي سواء في داخل الساحة الوطنية أو خارجها ؟.

اميل شخصيا الى القول بان اراءنا السياسة ومواقفنا النابعة منها، لاتخضع لعقلانية سياسية بقدر ماتخضع لعواطفنا وانفعالاتنا ،ومقدار مانحمل من تصورات ومشاعر كره او حب ازاء الاخر ،حسابات المصلحة غائبة ،وانا هنا لا أدعو الى براغماتية ،ولاأريد ان انكر دور الافكار والمباديء والقيم في تشكيل السلوك السياسي ،لكني اقول ان السلوك السياسي بقدر مايسعى لخدمة اهداف ومصالح الفرد والجماعة السياسية ،فانه لايكون منفصلا عما نحمل من موروثات منشؤها مذهبي أو قومي أو ديني ،ومن ذاكرة متخمة بالتجارب ، وهذه المسبقات والقبليات تصبح كلها معيقات عن التفكير الهاديء المعقلن ،الذي يغلب منطق المصالح على منطق المشاعر.

يعج البازار السياسي العراقي بمختلف الشعارات والدعوات ،التي تزعم الدفاع عن مصالح الدولة العراقية وحقوقها وسيادتها ،وفي ثنايا هذه الدعوات تنتصب مشاعر الولاء والاستتباع أو الكراهية والبغضاء ،وكلها مسوقة بدوافع ومسورة بانفعال معين ،مرتبط بذاكرة واحداث ،ويراد ان تكون لهذه المشاعر حاكمية على المواقف والسياسات .لاأزعم ان الاخرين حيدوا مشاعرهم بيد ان مايميزنا في العراق عن غيرنا هو محاول قوى وفئات سياسية تأبيد المواقف واعطاءها طابعا ثابتا،فالعراقي الذي كره السعودية ومن دخل في محورها، والذي كره ايران ومحورها ، والذي يحقد على الكويت وشيوخ الخليج واغنياءه ، وذلك الذي يشتم الاردن ومصر وسياساتهما ،ومن يعادي سوريا وحزب الله في لبنان ،أو الذي يرفع صوته ضد تركيا واردوغان ،أومن يرى امريكا والغرب شر مطلق، كل هؤلاء اذا فتشت في ثنايا مواقفهم ستجد ان الدوغمائية والتعميم هي السبب في ذلك ،انه الدمج بين الموقف التاريخي والسياسي الذي لايميز بين عناصر ومفردات الصورة ،انه لايرى المتغيرات ،بل هو جامد صلد لايحسب لقيم الضرورات ولايقيم وزنا لمنطق الاضطرارات ،انه مشغول بالبحث عن مايسوغ العداوة بالاستدلال بموقف وسياسة وسلوك محدد ، انها صورة نمطية عن صورة الذات وصورة الاخر ،فانت لاترى في صورة الذات الا كل صواب واعتداد وتعالي ، فيما لايبدو الاخر الا عدوانيا ومتأمرا وخسيسا.

تحويل الاختلاف الى صراع ماهوي هوياتي يقطع الطريق على الحلول الوسط والتسويات الضرورية . في المنطقة العربية اتسم الصراع بين قوى اليمين واليسار بصفة العداء المستحكم على طريقة صراع الاديان والمذاهب ، الصراعات اللاهوتية لاتعايش فيها ولاتقبل انصاف الحلول أو التنازلات المتبادلة ،تعلمت الاجيال العربية وفي العراق مجال حديثنا ،اخلاق المغالبة والاقصاء للاخر المختلف ،صيغ المشاركة مرفوضة ،التفاهم مع الاخر ينم عن ضعف وتراجع ،وفق هذه الرؤية ، في العلاقات الحزبية وفي العلاقات الدولية ،حينما كان اليسار الماركسي او القومي يشن حروبه الكلامية عبر آلته الاعلامية والتواصلية ،كان الخطاب مقذعا في مفرداته والقسوة ابسط مكونات قاموسه السياسي ،فلا مهادنة مع اعداء الامة والوطن!! ،ولا مسامحة مع انظمة واحزاب اليمين والعمالة الفكرية والسياسية !!!؟هكذا كانت توصم !! ،مضى هذا الخطاب ليترك ثقافة المفاصلة الممزوجة بالعداوة ، ومشاعر الكراهية والرغبة في تحطيم الاخر ، والمكابرة في الاعتراف بخطأ الخصومة المؤدلجة التي تقفز على حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة.

عملت الالة البعثية على انتاج خطاب التخوين ونشر العداوات وتحطيم الاخر وتبخيسه ،ثم لم يجد هذا الخطاب بًُدا من الانقلاب على من عاداهم بالامس ليعود حليفا ومتملقا ،ثقافة الكراهية لاتصلح معيارا وقاعدة لسياسات الدول ،فليست هناك عداوات دائمة وصداقات مؤبدة ،قدم الفيتناميون نموذجا لما يعرف بمنهج المصالح والتسامح ،احرقت امريكا مدنا وقرى بمساحة بلدان قائمة بذاتها ،وقتلت عشرات الالاف من الفيتناميين ،لكن حينما انتصر الفيتكونغ وارتفع علم النجمة الحمراء وسادت اشتراكيتهم التي وزعت الفقر بقوة الدولة ،اكتشفوا لاحقا ان العيش على الذاكرة والاحتفال المتكرر بالنصر السياسي والاعلامي لايطعم المزيد من الفقراء ولا يمنع عن السلطة غضب المحرومين .ثلاثون عاما كانت كافية لينسى الفيتناميون ثأرهم من الامريكان ،ثم نجحوا في جعل اعداء الامس اكبر مستثمر في اقتصادهم ،فارتفعت مداخيلهم ثلاث مرات وتحولت بلادهم الى نمر اسيوي جديد وانصرفت البلاد تحث خطاها نحو التحول الكبير من الاقتصادالمغلق الى الاقتصاد المفتوح بكل مايشترطه ذلك من علاقات وطيدة مع الجيران واسواق مفتوحة واولويات جديدة ، ولم ينس الناس هويتهم وثقافتهم ، ولا استمروا يلوكون الكلام ويستعيدون سرديات الحرب ، وغيرهم يراكم الثروات ويعيش بامن وامان.

تحضر صورة العراق في لحظته الزمنية الراهنة ، وكل حزب يريد العراق على صورة عداواته وميوله ورغباته وكراهياته ،من يعادي ايران لايريد ان يتزحزح عن عداوته ناسيا حتميات الجغرافيا والتاريخ والثقافة ،ومن يكره الاتراك لاينظر الا الى صورة الجزمات الثقيلة للعسكر العثماني ويهمل الحاضر التركي ومتغيراته ،ومن صعب عليه التوافق مع السعودية، يستحضر الفكر السلفي القتالي والتشدد السابق للمذهبية الوهابية ومؤسساتها الدينية وكتبها ومنشوراتها وخطابها وفتاواها ، ولايرى انفتاحا وتغييرا اجتماعيا وتصورات استراتيجية جديدة ازاء العراق والمنطقة ،الناس تجري خلف مصالحها والعراق لديه مصالح عطلتها ايديولوجيات اليسار وثقافته التي اورثها للجمهور حتى بعد موت البعث وهزيمة افكار اليسار ،اعداء اليسار يمكن ان يقعوا بذات الاخطاء التي كان كانوا ينكرونها على اليساريين ،ثم الندم بعد فوات الاوان.

بريد المسلة