المسلة

المسلة الحدث كما حدث

نحن والغرب من الرابح من صعود الشرق؟

نحن والغرب من الرابح من صعود الشرق؟

23 أكتوبر، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

ابراهيم العبادي

تتصاعد هذه الايام نغمة الحديث عن انهيار الغرب (الحضاري )وتراجع قوته عالميا لصالح قوى الشرق الصاعدة ،الصين والهند ،تراهن قوى عديدة بدوافع عاطفية انفعالية او لاسباب ايديولوجية -دينية ، على التقدم المضطرد الذي يحصل في شرق العالم اقتصاديا وتقنيا ،لتبشر نفسها والاخرين ، بان اوان افول الغرب يقترب كثيرا ،وان عالما جديدا باقطاب متعددة قيد النشوء والارتقاء ،القوى الدولية المنخرطة في صراعات النفوذ والتحكم ،تتحدث هي الاخرى عن علاقات القوة في العالم بلهجة الواثق من نفسه ، وترى بان العالم في طريقه الى التغير بالفعل ،وان نظام القطبية الاحادي الذي قادته الولايات المتحدة بعد عام 1991 (عشية انهيار الاتحاد السوفييتي ) سيتغير الى عالم متعدد الاقطاب ،بفعل الصعود الصاروخي للقوة الصينية ، وسعي سيد الكرملين فلاديمير بوتين ، الى اسباغ ايديولوجيته الجديدة (القوة الاوراسية )على حروبه وتصوراته للعالم الذي تشترك موسكو في زعامته.

المبشرون بافول الغرب تحدوهم الرغبة اكثر من المعطيات المادية، وان لم تعوزهم المؤشرات الرقمية على تراجع الغرب بالفعل ، تعاضدها انذارات وتحذيرات بعض الساسة والزعماء والمفكرين ، من اقتراب لحظة انتقال قيادة العالم من الغرب الى الشرق اذا مااستمر التدهور الذي يحصل حاليا في احشاء المنظومة الغربية لاسباب عديدة.

قبل سنوات انتبه المفكر السياسي الامريكي المسلم من اصل هندي ،فريد زكريا الى هذه الاصوات المحذرة والمنذرة من تراجع الولايات المتحدة اقتصاديا ، والمصاعب التي تواجهها في تمويل جيوشها وآلتها العسكرية ودبلوماسيتها الناعمة والخشنة في العالم ،قام زكريا بذهنية العارف المدقق ، بعقد مقارنات بين اقرب القوى التي تنافس وتهدد زعامة امريكا للعالم وقدراتها الاقتصادية والتقنية ،وبين قدرة بلاده على ادامة زخم الاحتفاظ بقوة الابداع والانتاج والتطوير والادارة ،ليجعلها في صدارة العالم لفترة قادمة، رغم بعض التعثر الاقتصادي المتمثل بارتفاع الدين العام ، وتراجع القدرة على التنافسية، وصعوبات التمويل والانفاق على القضايا الحيوية ،علاوة على صعوبة ادارة شبكة النفوذ وشن الحروب الاستباقية بعد تجارب حربي افغانستان والعراق والتلكؤ الحاصل في اوكرانيا حاليا.

طمئن زكريا القلقين على مستقبل القاطرة الامريكية ،بان الولايات المتحدة مازالت في المقدمة في محاور كثيرة ،وهي المحاور التي تمكنها من الاحتفاظ بمقود الزعامة لفترة قادمة، مع الاعتراف بان المتغيرات العالمية تشي بشراسة المنافسة وصعوبتها.

المراهنون على تراجع الغرب بزعامة امريكا وصعود الشرق ،يقدمون قراءة احادية لما يحصل في البلدان الغربية منها صعود قوى اليمين المتطرف وتنامي تيارات الانعزال والانغلاق القومي الناتجة من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وتوافد المهاجرين واللاجئين وتدهور مستويات المعيشة مقارنة بسنوات الرخاء ، وهذه هي اكبر الامثلة التي تساق الان لتعزيز فكرة تراجع الغرب ،وتعزز هذه الامثلة ايضا بفرضية انتصار روسيا في حربها على اوكرانيا وفرض موسكو نفسها قطبا شرسا لايمكن تجاوزه ،المتحمسون لفكرة التراجع والتدهور الغربي ،يتبنون رؤية بوتين ونظرية الكسندر دوغين للحرب الروسية الاوكرانية، وينظرون اليها بانها حجر الزاوية الاهم الذي سيرسم مستقبل العلاقات الدولية لفترة قادمة ،لان الحرب بزعمهم انطلقت لمنع تمدد حلف الاطلسي ومنع الغرب بزعامة امريكا عن اضعاف القوة الروسية ،فالحرب في منظورهم هي مقدمة روسية لعالم متعدد الاقطاب تقوده روسيا المنتصرة والصين الصاعدة المتمددة بهدوء عبر القوة الاقتصادية والتكنولوجيا الفائقة حينا ،وعبر الاستعراضية العسكرية في الممرات الحيوية حينا اخر كما يجري في خليج تايوان و بحر الصين الجنوبي ،اذا اظيفت الهند الى الثنائي الروسي -الصيني ،في مقابل تراجع ملموس في قدرات اوربا سيما بريطانيا وفرنسا وايطاليا ،فان الشرق سيواصل معركة انتزاع الصدارة من الغرب ، وان مازالت الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين قادرين على وضع القيود على القوى الجديدة المنافسة.

احدث الادلة التي يوردها المتحمسون لانهاء الهيمنة الغربية على النظام العالمي هي الانحطاط الاخلاقي والقيمي ،الذي ينخر الغرب بعد نجاح القوى المروجة للمثلية في فرض اجندتها قانونيا واجتماعيا ،وظهور بوادر انهيار اجتماعي وتهديد للعائلة التي تشكل صلب البنيان المجتمعي وماينشا عن ذلك من مشكلات كبيرة ستقود حتما الى نكوص حضاري كبير ،مثلها مثل الحضارات السابقة التي انهارت لابسبب تراجع القوة المادية وحدها فحسب ، بل في انهيار النموذج الاخلاقي الذي ارتكزت عليه .ومثلما قادت الحرية والفردية والتنافس والراسمالية ، دول الغرب الى انتاج القوة وتعضيدها وتنميتها والهيمنة بسببها على العالم لاكثر من 300 سنة، فان هذه الاسباب المادية والمعنوية ،ستقود الغرب حتما الى التخلي عن هذه الزعامة لصالح قوى صاعدة ماديا ومعنويا .لان القوة المادية وحدها لاتصنع نموذجا.

لكن احدا من المروجين لنظرية افول الغرب وصعود الشرق لايتحدث عن النموذج الاخلاقي الجاذب للعالم والذي سيصبح مائزا نوعيا مرجحا لهذا الصعود ،فالغرب لم يهيمن ويصبح نموذجا بقوة الابتكار ومتانة الاقتصاد ودولة الرفاه وحدها ،بل كانت المنظومة القانونية والقيمية المرافقة لها هي ما اغرى البشر بالانبهار بهذا النموذج ، وحتى الساعة لم تستطع قوى الشرق المنافسة للغرب ان تقدم نموذجها الانساني والحقوقي المثالي ماسيحرمها من بناء صورة النموذج المثالي البديل للغرب ،افول الغرب ليس امنيات ومؤشرات تدل على قرب خسارة موقع الصدارة على فرض تحققه ،بل هو انقلاب في موازين القوى ومنظوماتها الاخلاقية والاجتماعية ونموذجها الجاذب ،فهل سيستطيع الشرق ان يملأ هذا الفراغ بسرعة امنيات الحالمين بتراجع النموذج الغربي ؟

القراءة الدقيقة لا تقول بذلك ،فالنموذج السياسي والحقوقي والاخلاقي الشرقي ليس كما يروج اعلاميا وعلى شاكلة التفكير الرغبوي، رغم عيوب وقبح الكثير مما يجري في الغرب حاليا ،بل ان هذا الغرب نفسه قادر على ان يصحح مساراته بمكامن القوة لديه ،وابرزها قدرته على القراءة النقدية والتعلم من تجاربه واخطائه ،مايرضينا نحن الشرقيين (المسلمين ) لن يكون تغير اقطاب العالم بين شرق (مسالم )وغرب (عدواني ) كما يُظن ،بل ببناء النموذج السياسي والاقتصادي والاخلاقي الذي يصرف اهتمام شعوبنا عن الشغف بنماذج الاخرين ،هذا ماتساءل عنه الباحث والمؤرخ الايراني الشهير رسول جعفريان وهو يرد على المبشرين بسقوط الغرب متسائلا لماذا يتجه ابناء المسلمين مهاجرين الى هذا الغرب متحملين كوارث الموت غرقا ودهسا اذا كان هذا الغرب سينهار قريبا ؟.


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.