بغداد/المسلة:
ابراهيم العبادي
كلما حضر محرم الحرام وتجددت ذكرى عاشوراء الاليمة،كلما اعاد العراقيون قراءة واقعهم السياسي وعلاقتهم المضطربة بالسلطة وفقا لقيمهم الدينية والاخلاقية ، وزادت دافعيتهم للمقارنة بين مشكلات ومفارقات مجتمع الكوفة وظروفه في عصر الحسين -ع- و مشكلات ومعضلات مجتمعهم في لحظته الراهنة .
هناك احالة دائمة ومقارنة مستمرة بين عراق الامس (البصرة والكوفة ) وعراق اليوم ، تتنازع قراءتان او خطابان حول هذا الموضوع المتجدد ،احداها اعتذارية -تبريرية، ترفض توجيه التهم وتمنع توصيف ذلك المجتمع باوصاف قاسية وتوصمه بوصمات اخلاقية سلبية اعتباطية ،واخرى تتخذ مجتمع الكوفة نموذجا للازدواج واختلال القيم والمعايير والنشوز والتنافر (قلوبهم معك وسيوفهم عليك )ونتيجة هذه القراءة تخلص الى التحذير من تواتر هذه الاخلاقيات والطبائع والعقليات لانها قد تكون حاضرة في الوعي الجمعي الحاضر وتنتج من الانتكاسات ماأنتجه مجتمع الامس .
ملحمة الحسين في كربلاء عام 61 هجرية ، لم تكن حركة اصلاحية مجهضة فحسب ،وليست خروجا عابرا على السلطة السياسية كسائر الانتفاضات والحركات الثورية ، بل لها خصوصيتها وفرادتها في جذورها العقدية والاجتماعية والسياسية كما يعبر عن ذلك العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين(1936-2001) في كتابه الذائع (ثورة الحسين) .
ملحمة الطف فعل تأسيسي صدم وعي الناس والتصق بذاكرتهم وهيمن على تفكيرهم وثقافتهم ومازال محركا للتاريخ ، بل امسى مائزا ودافعا للبحث والمقارنة والتقصي والاستذكار.
كربلا علامة فارقة في التاريخ الاسلامي ،وهي مناسبة متجددة لقراءة الواقع الاجتماعي والسياسي العراقي متجسدا في سلوك الافراد والجماعات ، خصوصا حينما يعيشون في ظلال أزمة حادة تتسبب في انشطار وعيهم وانقسام ارادتهم ، أو حين تحل فيهم لحظة صدام عنيف مع السلطة ، فتتبدى فيهم حالات النكوص والتراجع في مقابل بطولة فردية واصرار على التضحية ، وهذه هي القضايا التي تحرك الجدل عادة ، وتلخصها مفاهيم الانصياع والخضوع ،و الثورة والتمرد .
ما من حدث عراقي فيه لمحة معارضة أو رفض أو مطالبة اجتماعية أو سياسية الا وتحل فيه شعارات كربلاء،استلهاما واستيهاما ،حتى الاحتجاجات المطلبية العادية تحاول بناء شرعيتها عبر الارتباط بالقيم الاخلاقية التي اشاعتها واقعة الطف بوصفها حركة حقوق ودفاع عن معايير الحكم العادل .
ان هذا الحدث المفصلي شكل ومازال اطارا للتضحية وتحمل المعاناة والصبر على المواقف والجرأة في مواجهة حكام الجور والقهر والاستبداد ،وهو اطار مهم وضروري لاسباغ الشرعية ومنح التحركات المطلبية والاصلاحية صفتها الاخلاقية والمناقبية استمدادا من قيم الرفض الحسيني واستدعاء للشعارات الاصلاحية التي رشحت منها .
في مقارنة سريعة بين مجتمع الكوفة بالامس ومجتمع العراق اليوم ثمة خيوط تؤشر الى جذور مشكلة راسخة في طبقات الوعي الاجتماعي ،مع الاقرار بالفروق الفردية والاجتماعية ،اذ ثمة توق عارم الى الثورة و الاصلاح السياسي والديني والاقتصادي .
لكن بنية الفكر والثقافة الفردية والجماعية لاتساعد على نضوج هذا الاصلاح ليصل الى غاياته ،فالعراقيون -كما في تاريخهم الوسيط – يعانون من غياب البصيرة والرؤية الموحدة والارادة المشتركة ، وقد انطبع تاريخهم بثنائيات حادة ،رفض /انصياع /ثورة /خضوع /استبداد عنيف /معارضة مسلحة ،وكل حركة لها مايبررها دينيا وسياسيا .
ان التركيز على اعطاء هوية للصراع على السلطة من منظور ديني -لاهوتي ،(لاهوت الثورة) كما يسميه حسن حنفي (ت 2021) لم يوازيه فعل بنائي يراكم معالجات ويرسم معالم طريق لسلوك اصلاحي ومنهج سلطوي يشيع ثقافة النهوض من قاع التخلف ( او مايسميه الكاتب محمد عبدالجبار الشبوط ، الخلل الحادفي المركب الحضاري ).
ويكرس اعرافا ورؤى للحكم الفعال الرشيد ،الفعل الاصلاحي او الثوري لايبني قدرات الانسان والمجتمع اذا اقتصر على استبدال سلطة باخرى ،وازاح قوة ليحل بدلها قوة موازية وهو ماحفل به تاريخ العراق ،الرؤية المركبة من الفكر والقيم والاخلاق التي تؤطر الافعال وتمنحها قيمة تفاضلية ،هي ماينجي السلطة الجديدة من افات الفساد والطغيان والعزلة وفقدان ثقة المجتمع العام لحد بلوغ نصاب الثورة عليها .
تفقد المجتمعات بصيرتها وتدخل في متاهات الضياع اذا لم تنجح جهود القادة والنخب والفواعل السياسية والثقافية والدينية في تاطير الفعل الاجتماعي نحو هدف مركزي يصبح قاسما مشتركا وبما يلزم الحاكم والمحكوم بمنظومة حقوق وواجبات بمنبهات ورقابة متواصلة ، فنهضة الشعوب ارتبطت على الدوام بقدرة الناشطين والحركيين والقوى السياسية على توجيه الوعي العام نحو ذلك الهدف ( هدف النهضة ) ،اما اذا انقسم المجتمع على نفسه بخطابات سياسية متوازية ومتباعدة ،فلن يحقق ذلك المجتمع نجاحا معتبرا رغم توافر الامكانات ، الفشل العراقي المستدام يتكرس في صياغة معادلة الحكم وبناء المؤسسات.
وحيث تزداد الدولة هشاشة وتعجز السلطات عن تحقيق اهداف المجتمع وتوفير شروط نهضته ،يفقد الفرد ثقته بالدولة ويصبح اسير نزعاته الفوضوية ،ثمة ناظم فعال لحركة الافراد والجماعات المختلفة يتمثل في القانون وهيبة السلطة وقدرتها على احتكار العنف ،واذا نجح الافراد والقوى الحزبية في تحدي الدولة يصعب بعدها السيطرة على حركة هولاء بدون قدر من العنف المشروع .
محنة المجتمع العراقي الراهنة تكمن في عدم قدرته على الاهتداء لمسلك عقلاني نحو الاصلاح والتغيير وارتهانه للانقسامات بين زعامات متعددة ومشاريع متقاطعة ،استمرار هذا الحال سيعجل بولادة سلوك فوضي عنيف يطيح بالعقدالاجتماعي ويرسخ نزعة (الاناركية) وكراهة السلطة ويهدد استمرارية الدولة ويعطل قدرتها على اداء وظائفها .
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
أسود الرافدين يواجهون النشامى في سباق التأهل للمونديال!
السوداني يوجه باعداد هيكلية موحدة للوزارات والشركات العامة
انفجارات في دمشق وأنباء أولية عن استهداف بناء سكني