بغداد/المسلة: يُنظر إلى الاستثمار الحالي في العراق، على أنه غير مدعوم بخطط استراتيجية ذات أهداف تنموية واضحة، بل يُعتبر في كثير من الأحيان وسيلة قانونية لتبييض الأموال.
وهذا الوضع يعكس مدى تدهور المناخ الاستثماري في البلاد، حيث يتم توجيه الأموال القذرة إلى مشاريع تبدو مشروعة، لكنها تفتقر إلى القيمة الاقتصادية الحقيقية.
وبدلاً من أن تكون الاستثمارات محفزات للنمو والتطوير، فإنها تعمل كغطاء لإخفاء مصادر الأموال غير الشرعية، مما يعزز الفساد ويقلل من فرص التنمية المستدامة، فيما الشركات والمستثمرون يتجنبون المخاطر ويستفيدون من نظام بيروقراطي لا يراقب بفاعلية عمليات غسيل الأموال
وغسيل الأموال، أو تبييض الأموال، هو عملية تحويل الأموال المكتسبة بطرق غير شرعية إلى أموال تبدو وكأنها شرعية. هذه العملية المعقدة تتضمن استثمار الأموال القذرة في مشاريع تبدو قانونية، مما يخفي مصدرها غير المشروع. وفي العراق، يشكل غسيل الأموال تحديًا كبيرًا للاقتصاد والاستقرار الاجتماعي، ويؤثر بشكل مباشر على فرص الاستثمار والتنمية المستدامة.
وجهة الأموال القذرة
ومن أكثر الأساليب شيوعًا لغسيل الأموال في العراق هو استثمار العائدات غير المشروعة في قطاع العقارات، اذ يتم توجيه أموال النهب والتجارة غير القانونية، إلى شراء العقارات داخل وخارج العراق.
هذا النوع من الاستثمار يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأراضي والعقارات حتى في المحافظات التي لا تتمتع بمقومات اقتصادية أو سياحية واضحة.
وهذا الارتفاع غير المبرر في الأسعار يعد مؤشرًا قويًا على دخول الأموال القذرة إلى سوق العقارات، مما يجعل من الصعب على المواطنين العاديين شراء منازل أو أراضٍ.
الاستثمارات الوهمية وغياب التنمية
هناك الكثير من الحالات التي تظهر كيف يتم استغلال العراق في عمليات غسيل الأموال. على سبيل المثال، قبل عامين، أعلنت شركة روسية عن استثمار في معامل الزجاج والسيراميك في الرمادي، ولكن لم يتم تنفيذ أي خطوة فعلية في هذا المشروع. هذه الاستثمارات الوهمية تستخدم كغطاء لتبييض الأموال، دون تحقيق أي فوائد حقيقية للاقتصاد العراقي.
القطاع المصرفي: مركز الفساد وغسيل الأموال
ويعد القطاع المصرفي في العراق أحد أكثر القطاعات فسادًا، حيث يساهم بشكل كبير في تسهيل عمليات تهريب العملة وغسيل الأموال. البيروقراطية المتغلغلة وعدم تقديم الخدمات المالية الحقيقية للمواطنين يجعل من هذا القطاع بيئة خصبة للفساد المالي. بالإضافة إلى ذلك، تعتمد بعض البنوك بشكل رئيسي على جني الأرباح من خلال هذه العمليات غير القانونية، مما يعمق الأزمة الاقتصادية في البلاد.
وأصبح غسيل الأموال في العراق أكثر تعقيدًا، حيث تم استخدام وسائل جديدة مثل الألعاب الإلكترونية.
رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، فاضل الغراوي، أشار إلى استخدام لعبة “بوبجي” في عمليات غسيل الأموال، مما أدى إلى خروج مليار دولار من العراق من خلال شراء بطاقات الشحن. هذه الطرق الحديثة تظهر مدى تطور شبكات غسيل الأموال وقدرتها على استخدام تقنيات العصر الرقمي لتمرير أموالها القذرة.
دور دول الجوار
وتلعب بعض الشركات من دول الجوار دورًا مشبوهًا في الاقتصاد العراقي، حيث يُشتبه بأن هذه الشركات تُستخدم كواجهات لغسيل الأموال للجهات النافذة. الاستثمار الأجنبي، الذي يُفترض أن يكون وسيلة لتعزيز الاقتصاد، يصبح في كثير من الأحيان وسيلة لتبييض الأموال، مما يضر بسمعة البلاد ويعزز مناخ الفساد.
القوانين والفساد: من المسؤول؟
القوانين العراقية الحالية والممارسات القضائية تترك الكثير مما هو مطلوب في مكافحة غسيل الأموال. إطلاق سراح المتهمين بسرقة مليارات الدولارات وعدم استرداد الأموال إلا بعد إثبات التهمة يعكس ضعف النظام القانوني. وبالرغم من إصدار مذكرات دولية لاسترداد الأموال، إلا أن العراق لا يزال بعيدًا عن تحقيق العدالة الكاملة.
تجارب دولية
يتأثر الاقتصاد العالمي بشكل كبير بهذه الظاهرة، حيث تقدر الأمم المتحدة أن قيمة الأموال المغسولة عالمياً تصل إلى تريليونات الدولارات سنوياً. وأدت هذه المشكلة إلى اتخاذ دول عديدة إجراءات لمكافحتها، ولكن يبقى التحدي قائماً بسبب تعقيد العمليات وتنوع أساليب غسيل الأموال.
الولايات المتحدة: “قضية بنك واشنطن المتحد”
الولايات المتحدة من أكثر الدول نشاطًا في مكافحة غسيل الأموال، حيث أنشأت مجموعة واسعة من القوانين لمراقبة الأنشطة المالية. واحدة من أشهر الحوادث في الولايات المتحدة كانت “قضية بنك واشنطن المتحد” في الثمانينيات. هذا البنك الصغير في ولاية ميامي كان يستخدم لتبييض أموال المخدرات لعدة سنوات، قبل أن تكشف السلطات الفيدرالية عن نشاطاته غير القانونية. أدى التحقيق إلى إغلاق البنك ومصادرة ملايين الدولارات من الأصول. كانت هذه القضية نقطة تحول في تاريخ مكافحة غسيل الأموال في الولايات المتحدة، حيث دفعت إلى إصدار قانون مكافحة غسيل الأموال لعام 1986.
سويسرا: السرية المصرفية تحت المجهر
سويسرا، المعروفة بسرية مصارفها، كانت لفترة طويلة ملاذًا لغسيل الأموال. ومع ذلك، تعرضت لضغوط دولية متزايدة لتعديل قوانينها المصرفية. وفي العام 2015، تم الكشف عن فضيحة “HSBC سويس”، حيث تبين أن فرع بنك HSBC في جنيف كان يساعد العملاء في إخفاء أموالهم وتجنب دفع الضرائب، بما في ذلك الأموال المرتبطة بعمليات غسيل الأموال. أدت الفضيحة إلى إعادة النظر في ممارسات السرية المصرفية السويسرية، وتم تعديل القوانين للسماح بمزيد من الشفافية والتعاون الدولي في التحقيقات المالية.
روسيا: “قضية المغسل الروسي”
روسيا شهدت واحدة من أكبر عمليات غسيل الأموال في التاريخ الحديث، وهي ما تعرف بـ”قضية المغسل الروسي”. تم الكشف في العام 2014 عن شبكة لغسيل الأموال تقدر قيمتها بحوالي 20 مليار دولار، حيث استخدمت الشبكة البنوك الروسية والدولية لنقل الأموال غير القانونية إلى الخارج. التحقيق في هذه القضية شمل أكثر من 96 دولة، وأدى إلى فرض عقوبات مالية على عدة بنوك متورطة. كانت “قضية المغسل الروسي” مثالاً على التعقيد والتنسيق الدولي المطلوب لمكافحة غسيل الأموال.
المكسيك: “بنك HSBC والمخدرات”
في المكسيك، تم الكشف عن تورط بنك HSBC في عملية ضخمة لغسيل الأموال لصالح عصابات المخدرات المكسيكية. بين عامي 2006 و2010، قام البنك بتسهيل عمليات إيداع وتحويل أموال غير قانونية بقيمة تقدر بمليارات الدولارات. وفي العام 2012، وافق البنك على دفع غرامة قدرها 1.9 مليار دولار لتسوية التهم الموجهة إليه من السلطات الأمريكية. هذه الفضيحة أظهرت ضعف الأنظمة المصرفية في مواجهة شبكات الجريمة المنظمة، وأدت إلى تشديد الرقابة على الأنشطة المصرفية عبر الحدود.
البرازيل: “عملية غسيل السيارات”
في البرازيل، كشفت “عملية غسيل السيارات” عن شبكة واسعة من غسيل الأموال والفساد السياسي. بدأت العملية في العام 2014 كمحاولة للتحقيق في شركة صغيرة لغسيل السيارات، لكنها توسعت لتكشف عن شبكة فساد واسعة تشمل شركات النفط والسياسيين. تمت إدانة عشرات الشخصيات البارزة، بما في ذلك الرئيس البرازيلي الأسبق لويز إيناسيو لولا دا سيلفا. العملية أظهرت كيف يمكن لغسيل الأموال أن يكون جزءًا من نظام فساد متكامل، وأدت إلى سلسلة من الإصلاحات في النظام القضائي والمالي في البرازيل.
الهند: “فضيحة بنك البنجاب الوطني”
في الهند، كشفت فضيحة “بنك البنجاب الوطني” في عام 2018 عن ثغرات في نظام الرقابة المصرفية. تم اتهام رجل الأعمال نيراف مودي وشركائه باستخدام وثائق مزورة للحصول على قروض من البنك، وتحويل الأموال إلى حسابات خارج البلاد في عملية غسيل أموال معقدة. الفضيحة، التي قدرت قيمتها بمليارات الدولارات، أدت إلى اعتقالات وإصلاحات في النظام المصرفي الهندي لتعزيز الشفافية ومنع التلاعب.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
ترامب: سأوقف الفوضى في الشرق الأوسط والحرب بأوكرانيا
محافظ المثنى يكشف عن فتح مقبرة جماعية: أكثر الجماجم لأطفال صغار
البطالة القانونية: عندما تتحول العدالة إلى أزمة مهنية