المسلة

المسلة الحدث كما حدث

القبيلة والدولة في العراق

5 يوليو، 2022

بغداد/المسلة:

ابراهيم العبادي

في عام 1992 اصدر مركز دراسات الوحدة العربية كتاب (صراع القبيلة والدولة في الخليج العربي)للاستاذ العراقي المغترب الدكتور محمد جواد رضا ،تناول فيه المؤلف المخاض الصعب الذي ادى الى انتقال مجتمعات قبلية الى دولة عصرية ،بكل ماأنطوى عليه ذلك من تنشئة سياسية وبناء مؤسسات ، قادت الى استقرار اسس الدولة ومكنتها من الشروع بتنمية شاملة ،استطاعت خلال نصف قرن ان تتجاوز دول اعرق منها في التأسيس للدولة الحديثة ، فكرة الكتاب كانت تدور حول رسوخ القيم القبلية وصعوبات الانتقال الى قيم الدولة الحديثة، بما يستلزم القطع مع علاقات ومصالح القبيلة من هيمنة ونفوذ واستحواذ وتفضيل وأعراف الى الفضاء الاوسع للدولة ، التي ينبغي ان تعمل على قيم القانون و المساواة والحقوق وتكافؤ الفرص والولاء للكيان الاوسع لا لكيان القبيلة الضيق ،كانت الشكوى كبيرة من صعوبات التحديث والانتقال الثقافي الى رحاب ثقافة الدولة لا ثقافة القبيلة ، وظلت ذيول ثقافة الاخيرة راسخة تتمظهر في صراعات مخبوءة على السلطة والثروة ، بعد تنامي قوة القبائل السياسية بصعود من يمثلها ويمثل مصالحها الى قمة الهرم السياسي (نواب في مجالس التشريع ووزراء وفاعلين سياسيين ).

قصة نشأة الدولة في الخليج تلقي الضوء على المسار الصعب وربما البطيء للانتقال من التحديث الاجتماعي والاقتصادي الى التحديث السياسي ، الذي مازال مرتبطا بمحددات القبائل ودور القبيلة الاقوى وربما الاكبر او الاقدر على انتاج بيوتات وأسر مالكة وحاكمة ، عرفت الطريق الى الانخراط في سياق التحديث والعولمة رغم فكرها المحافظ واستطاعت النجاة من العواصف الفكرية والسياسية والازمات والحروب ،قياسا بالدول الاعرق ذات البنى الاجتماعية العابرة للقبائل ،والحراكات السياسية الواسعة ، والايديولوجيات المتصارعة والتاريخ الحافل بقيام وسقوط الدول.

لم يكن الطريق سهلا وبدون ارتدادات فللتحديث ثمنه وللقيم الجديدة اثارها ،ولضغط الفكر الذي يتوالد في البيئات العالمية نتائجه ، فعلى وقع تسارع العولمة وتشيؤ الانسان وظهور الخيبات باخفاق التعليم في بناء منظومات قيمية تحض على المساواة والحقوق وباخفاق النسق الحكومي في تثبيت قيم المواطنة والمساواة والتشاركية ،كل ذلك ادى الى انبعاث الاصوليات والعودة الى الجذور طلبا للحماية ،وهي الظواهر التي تحدث عنها الناقد السعودي عبدالله الغذامي في كتابه الذائع (القبيلة والقبائلية ،قصة انبعاث الاصوليات) الصادر عام2009،اي بعدقرابة العقدين من صدور كتاب الباحث الراحل محمد جوادرضا.

تشير صعوبات التحديث والنقد والانتقال من ثقافة القبيلة بوصفها وحدة اجتماعية، ومكوننا من مكونات مرحلة ماقبل الدولة، الى ثقافة الدولة ، ثم معاودة ظهور ثقافة القبيلة مجددا كنسق عنصري تفضيلي داخل الدولة الحديثة ..تشير هذه الصعوبات الى مشاكل فشل الدولة أو بالاحرى فشل الانظمة السياسية والنخب التي تقودها وتنتمي اليها، أو تلك التي تتخادم معها ، في الاحتراز من الممارسات والسلوكيات التي تدفع الى انتكاسات اجتماعية ، وتقهقر في الذهنية العامة يقود الى الاستنجاد بقيم ماقبل الدولة الحديثة ، اي الى قيم العصبية والولاء للعائلة الكبيرة(العشيرة) ،واختزال القانون العام بقانون القبيلة ، وارتكاس القيم الفردية الى قيم لاتنم عن انتماء الى الفضاء الاوسع ،فضاء مجتمع المدينة ، بما فيه من تعاون ومصلحة مشتركة وتسويات اجتماعية وقبول بالتعددية واحترام حقوق الاخرين ،علاوة على الالتزام بشروط العقد الاجتماعي كالخضوع الى القانون والمحافظة على الموارد العامة وتبني قيم الجمال والنظافة والعمران ضمن نسق اخلاقي قيمي شامل.

تنبيء بعض الظواهر في الواقع العراقي الراهن الى تقهقر كبير في ثقافة المجتمع ادى ويؤدي الى تراجع عام على الصعد المختلفة ،فقد صار القانون العشائري بديلا عن قانون الدولة ،وصار القاضي القبائلي هوالاقدر على حل المشكلات الاجتماعية الاكبر والاوسع ،وغدت الممارسة السياسية تتزعمها الشخصيات ذات الثقل العشائري ،وباتت المشاركة في النشاط الاقتصادي ممهورة بقدرة الشخصيات العشائريةعلى الضغط وممارسة النفوذ وربما ممارسة الابتزاز والتهديد للحصول على المقاولات وتلزيم المشاريع والحصول على التوظيف وفرص العمل لافرد العشيرة ،الاكثر من ذلك ان بعض الاحزاب السياسية صارت تحمل سمة القبيلة والحلف العشائري اكثر منها احزابا حديثة ،ومن المؤكد في ظل صعود القيم القبائلية وتسلح العشائر وتزايد العصبيات ان لايشهد العراق نموا أو تطورا أو ازدهارا في مشهده الاقتصادي والاخلاقي والجمالي ولا تحسنا في امنه الاجتماعي والنفسي ،بل ان المشهدالسياسي المعقد والخطير هو في ذاته ضحية ورهينة ثقافة قبائلية في عمقها ،فعندما يغضب سياسي او زعيم أو ناشط كبير تلتهب الساحة السياسيةوالاعلامية وتسود الازمة وتتلبد غيوم الضغينة وتتحرك الوساطات ،في محاولة لتهدئة الامور خوف انزلاقها الى المحذور.

لاشك ان هذا التراجع المخيف في القيم السياسية والاجتماعية ينم عن ضياع عقود من حداثة اجتماعية وثقافية مفترضة ،ويدعو الى موقف ثقافي ونقد اجتماعي وسياسي جاد لايقاف التدهور ،فليس من المعقول ان تنحدر الامور الى مستويات من التردي تعجز معها قوى الدولة ومؤسساتها عن وقف التدهور وتقبل بالامر الواقع لتصبح الدولة ومؤسساتها ونشاطاتها ووظائفها خاضعة لمنطق القبائلية ومنتجاتها.

 

بريد المسلة

About Post Author