بغداد/المسلة:
ابراهيم العبادي
تتعدد القراءات بين الباحثين والمهتمين بشان ما يحدث في العراق ايام مابات يعرف بزيارة الأربعين الحسيني، يحاول البعض قراءة الحدث الذي يمتد على مدار ثلاثة اسابيع من وجهة نظر السوسيولوجيا والانثربولوجيا، فالزيارة طقس ديني يحتشد فيه الملايين من جنسيات مختلفة، يوحدهم الرمز ويجتذبهم الحماس والانفعال والرغبة في العطاء بلا حدود ،يسعى السوسيو لوجي الى قراءة الظاهرة الدينية -الاجتماعية في دوافعها واهدافها والممارسات التي تجري فيها، يبحث عن المردودات المختلفة المترتبة عليها، وظائفها، وانعكاساتها فرديا ومجتمعيا ،فيما يذهب زميله الانثربولوجي الى قراءة النسق الثقافي والبنية الاولية التي تنتج طقسا ملحميا يقرن الحزن بالعطاء والبذل بلا حدود محاولا فهم الجذور المتينة المغذية لنمو واتساع الظاهرة الطقسية باندفاع كبير رغم ما يحيطها من مثبطات وصعوبات وربما مخاوف وتهديدات.
صارت الزيارة المليونية مادة للتفكير والتأمل بين ساع الى توظيفها إيجابيا دون قدرة على تفعيل مسارات هذا التوظيف ،وبين متأمل مأخوذ بالدهشة والذهول مما يحدث معتبرا ذلك نوعا من اليوتوبيا المؤقتة المتحققة في مكان وزمان محددين.
الأربعين الحسيني حدث سنوي ضخم مليء بالأسئلة متخم بالدروس العملية، انه مفارقة زمنية وسلوكية عما يسبقه وما يلحقه من سلوك اعتاد عليه الناس، فالحدث -الزيارة صار يوحد الناس مشاعريا ووجدانيا ،يقارب بين التجمعات البشرية، يدفع الى الانفاق والبذل بلا تحفظ، صار للزيارة اقتصادها ورآسمالها الخاص، بات السلوك الجمعي ينظم نفسه بنفسه، بل صار بامكانه الاستقلال عن الفعل الحكومي الرسمي تقريبا، بعبارة جامعة تحول حدث الزيارة الى مؤسسة خاصة يديرها الجمهور بنسبة كبيرة بلا تدخلات، وُيستدل في ذلك على مقدار ما يتمتع به هذا الجمهور من مرونة وصبر وتفاعل اجتماعي هائل يجتذب اليه الراصدين والقارئين بشغف وحماس.
تنفض الزيارة بعد انتهاء موسمها ،ويتنفس الجميع الصعداء، ويعود السؤال الكبير الى الواجهة: اذا كنا قادرين على ادارة حشود مليونية بعمل تطوعي مذهل دافعه التجرد والاحتساب والثواب والجزاء الاخروي ،فنحن ايضا نستطيع ان نتجند في ظرف معين لتحويل العطاء المكثف في اسابيع الى عطاء دائم يجعل العراق مشروعا (حسينيا) للنهوض بذات الدوافع، ما نحتاجه هو هندسة هذا المشروع واعداد الياته وخططه، عشرون مليون زائر ثلاثة ارباعهم من الداخل يستطيعون زراعة عشرين مليون شجرة سنويا لانقاذ بلاد الحسين من التصحر والتغير المناخي كل شجرة باسم زائر، ويستطيعون اطلاق مشروع لبناء الطرق وسكك الحديد والمستشفيات والمدارس والمعامل الصغيرة والمتوسطة والمزارع والاف المشاريع لتشغيل وايواء الفقراء والايتام والارامل توقف بأسم الحسين ويدار ريعها لرعاية فقراء الزائرين بدل ان تترك الى التبرعات المؤقتة التي تذهب انفاقا استهلاكيا ،يحتاج الامر الى تفكير جدي وادارة حديثة ،تقود الى بناء اقتصاد كاقتصاد شعيرة الحج والعمرة ،تستطيع الشعوب تحويل المناسبة الدينية والمظاهر الطقسية الى رافعة ثقافية -اقتصادية اخلاقية تحفز النهوض والنمو وتستفيد من هذه الخصوصية الثقافية لاطلاق برنامج سنوي للاعمار والتنظيم والجمال والفعاليات الدينية والقيمية والانتاجية، ما تحتاجه فقط هو الفكر الخلاق الذي يغير السلوك المؤقت الى دائم ويحفز المشاعر لتغدو سلوكا منتجا مبدعا ،انها دعوة جادة الى التغيير والنهوض استلهاما من هذا الذي يتحقق على ارض كربلاء كل عام ،مانغفل عنه نحن لايغفله الاخرون ،بل يطلقون بسببه عشرات الاسئلة ومثيلها من الاقتراحات والافكار ،للاستفادة من هذا (الكرنفال)السنوي لتطوير مستويات الاداء السياسي والخدمي والثقافي.
مجموعة لابأس بها من السفراء الاجانب حضروا هذا العام الى كربلاء لمعاينة قيم الايثار والعطاء والمثابرة والكدح والتضحية، العالم مندهش من حولنا يتسائل كيف لهذا الشعب الذي يفشل في تنفيذ برامج صغيرة وحل مشكلات من النوع المتوسط ويقضي الايام في المناكفات والخطابات الاستهلاكية ويتعثر في الديمقراطية ويعيش اقتصادا ريعيا ،لديه في ذات الوقت كل هذه القدرات الهائلة التي تستطيع ان تقلب واقع الحال وتضع العراق على سكة النهوض؟ .اين الخلل؟ ، هل هو في الزعامات والاحزاب التي اخفقت في توحيد الناس وتوجيه هممهم نحو البناء ؟ ،ام في ذات المجتمع الذي يخفق في انجاب مثل هولاء القادة؟، ام في العجز الاجتماعي عن تحويل المبادرة الفردية الى عمل مؤسسي جماعي ؟، اين الخلل؟ هل هو في الثقافة؟ ام في التنظيم والادارة ؟ام في البناء النفسي والمزاجي للفرد الذي ينفق عشرين مليونا من الدنانير في ايام الزيارة لاطعام الزائرين واكثرهم من متوسطي الحال، لكنه يرفض ان يتبرع بخمسين الف في الشهر لسد حاجة فقير ؟ آن الاوان للفكر العميق ان يتدخل لمعالجة هذا الخلل وتوجيه الناس نحو العمل المؤسسي الذي يستلهم الحسين امة يبني لها مستقبلها.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
لست واثق من انكم على هدى لتكتبوا ما يصلح الحال ويغير الاحوال وينير الطريق ويهدى الضال