المسلة

المسلة الحدث كما حدث

رواية الحمامة ونزيل الغرفة رقم 24: لابد من الآخرين

رواية الحمامة ونزيل الغرفة رقم 24: لابد من الآخرين

25 نوفمبر، 2022

بغداد/المسلة:

رند علي الأسود

هل يمكن أن يعيش الإنسان دون الآخرين؟

منذُ قراءة أولى الصفحات من رواية «الحمامة» لباتريك زوسكيند، الصادرة حديثاً عن (دار المدى) بترجمة كاميران حوج، ويتبادر إلى ذهن القارئ سؤال واحد، هل يمكن تجنب الخذلان الذي نتعرض له في حياتنا اليومية من الآخرين، بالاابتعاد عن الناس وعن الحياة الااجتماعية بصورة عامة؟ وهذا ما فعله بطل رواية «الحمامة» جوناثان نويل، الذي عانى من تجارب قاسية وهو صغير، وصولاً إلى مرحلة الشباب، ففي صيف عام 1942 عاد وهو صغير إلى منزله، ليجد أن والدته قد اختفت وتم اعتقالها وانها ستُرحل إلى الشرق (حيث لا يعود أحد بعد). وبعد فترة قصيرة تم اعتقال والده، ووجد نفسه مع اخته في قطار يتجه جنوباً إلى عمه الذي لم يشاهده من قبل، الذي أخذهم هو واخته وأطلقهم ليعملا في حقول الخضار. وفي بداية الخمسينيات عندما أخذ جوناثان يجد متعة في حياة العامل الزراعي، طلب منه عمه الاالتحاق بالجيش فأطاعه وتطوع لثلاثة أعوام، وعندما عاد كانت ااخته قد ااختفت وأخبروه إنها هاجرت إلى كندا، وأشارَ عليه العم بضرورة الزواج على وجه السرعة، وأختار له فتاة اسمها ماري باكوشه، فأطاع جوناثان عمه وتزوج بالفتاة أملاً في أن يعيش حياة مستقرة لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد أنجبت ماري ولداً بعد 4 أشهر من زواجهما! وبعدها هربت مع تاجر تونسي..

كل هذه الظروف جعلت جوناثان يفقد الثقة بالآخرين، وأن الإنسان إذا أراد الهدوء والسلامة عليه أن يعتكف بعيداً عن الناس. فقدان جوناثان كل المقربين له أفقده القدرة على الحب والعطاء، وحتى على الااندماج في المجتمع، فجمع كل مدخراته ورحل إلى باريس.

وفي باريس أسعده الحظ مرتين عندما وجد عملاً، حارساً في مصرف فهذه الوظيفة تجنبه الااختلاط الكثير مع الآخرين (لم يكن له أصدقاء. في البنك كان من ضمن البضاعة، كما يمكن القول. يعتبره الزبائن زخرفة وليس شخصاً. في السوق، في الشارع، في الباص ـ متى ركب الباص؟ كانت مجهوليته مضمونة بتجمهر الآخرين).

وكذلك وجد مبيتاً في غرفة صغيرة في الطابق السادس من إحدى العمارات في شارع دو لا بلانش، كانت الغرفة رقم 24 رغم صغر مساحتها أصبحت عالم جوناثان نويل الآمن وصومعته، فهو لا يبحث عن الترف، إنما عن مبيت آمن خاص به يحميه من عاديات الزمن المباغته.

ومرّ أكثر من 20 عاماً وجوناثان يعيش الروتين اليومي نفسه، يذهب إلى العمل وبعدها العودة إلى صومعته الآمنة، والجلوس فيها فرحاً بالعزلة الذاتية التي فرضها على نفسه، إلى أن جاء اليوم الذي حطت فيه حمامة أمام غرفته لا تبعد عن العتبة عشرين سنتمتراً، هذا الحيوان الوديع قلب كيان جوناثان في هذا اليوم، فقد أخلت بالتوازن الداخلي، وأخلت بالنظام الخارجي للحياة، النظام الرتيب الذي عاشه جوناثان لأكثر من 20 عاماً،
(لا يمكنك قتلها، لكنك أيضاً لا تستطيع العيش معها. مستحيل، لا يمكن لإنسان أن يعيش في بيت تسكنه حمامة. الحمام تجسيد للفوضى والخلل، الحمامة ترفرف في كل مكان، تنشب مخالبها وتنقر العيون.الحمامة توسخ وتثير بكتيريا قاتلة وفيروسات وسحايا الدماغ).

الرهاب الذي عانى منه جوناثان بعد خذلان الآخرين له جعله يخاف من أي تغيير بسيط يطرأ على حياته، حتى لو كانت حمامة! يقرر جوناثان ترك المنزل ويأخذ بعض متعلقاته ويذهب إلى العمل وتتواصل مآزقه حتى في العمل، عندما يتعرض إلى شق في بنطلونه وتكبر هواجسه وتتضخم تأويلاته فتوصله إلى الوسواس القهري في كل شيء، فيملأ الحقد قلبه ويتمنى أن يطلق النار على كل شيء أمامه، المقهى والبنايات وحشود السيارات ليتحول العالم إلى خرائب. ويذهب بعد العمل للمبيت في أحد الفنادق، وفي تلك الليلة تهب عاصفة ويسمع دوي اانفجار هائل يظنه نهاية العالم، يستيقظ مذعوراً فيكتشف أنه صوت البرق ويصل إلى نتيجة مفادها أنه لا يستطيع العيش دون الآخرين (كاد يصرخ أراد أن يصرخ بجملة أنه لا يستطيع الحياة دون الآخرين في وجه السكون. إلى هذا المدى بلغت حاجته، إلى هذا اليأس بلغ خوف الطفل العجوز جوناثان نويل من الأهمال).

يقرر العودة إلى سكنه ويتجه إلى شارع دولابلانش حيث البناية التي تقع فيها غرفته الأولى، تتسلل إليه روائح القهوة وأصوات الجيران ويكتشف أن الحمامة ذهبت، وأن كل شيء غدا كسابق عهده عدا جوناثان الذي لقنته الحمامة درساً مفاده عدم الخضوع إلى العجز، ولابد من وجود الآخرين في حياته.

كتب صاحب «العطر» هذه الرواية التي لا تتجاوز الـ60 صفحة لتفضح حياتنا العاجزة وتصورنا كيف يمكن أن نتهاوى تحت سطوة الأشياء التافهة وليست العظيمة بالضرورة.

يعتبر باتريك زوسكيند المولود في 26 مارس/آذار سنة 1949، ظاهرة فريدة بين الكتاب الألمان، فهو لم ينشر سوى مسرحية واحدة مطلع الثمانينيات بعنوان «الكونترباص» أعقبها عام 1985 برواية «العطر» التي حققت نجاحاً مدوياً، وتعد أشهر أعماله، وقد ترجمت إلى أكثر من 48 لغة وبيع منها ما يزيد على 15 مليون نسخة حول العالم، وتحولت في عام 2006 إلى فيلم سينمائي.

بعد تلك الرواية نشر زوسكيند روايتين، الأولى بعنوان «الحمامة» والثانية «حكاية السيد زومر» ثم نشر ثلاث قصص قصيرة تحت عنوان «هوس العمق» وصمت بعدها تماماً، ومع ذلك لا يزال اسمه لامعاً بين أشهر كتاب ألمانيا. وفي التصويت الشهير الذي نظمته هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي بين حوالي مليون شخص بريطاني لتسمية أهم مئة كتاب في الأدب العالمي، كان كتاب «العطر» هو العنوان الألماني الوحيد على القائمة.

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.