المسلة

المسلة الحدث كما حدث

الحرب والوحدة

19 ديسمبر، 2022

بغداد/المسلة:

محمد زكي إبراهيم

ليس بوسع أحد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، أو يمنع عجلة التاريخ من الدوران. فهذه سنة الكون في كل زمان ومكان. لكن علينا أن لا نتبرم بهذا. ولا نتضايق منه. فالكثير من الحوادث الكبرى التي خلفت الحزن في النفوس، كان لها نفع كثير، ظهر بعد وقت قصير من طي صفحتها على الأرض.

ومن هذه الحوادث المرعبة، الحرب العالمية الأولى، التي أزهقت أرواح 7.5 مليون إنسان. وتسببت في مجاعات وأوبئة قضت على 50 مليوناً من البشر لم يكن لهم في ما حصل ناقة ولا جمل. وأورثت لدى عشرات الملايين سواهم، الألم والحسرة والفقر والضياع لسنوات طويلة.

لكن العرب مدينون لهذه الحرب بالكثير. فهي التي جعلتهم يظهرون على جغرافيا العالم من جديد. ومهدت لهم الطريق لينشئوا دولاً وإمارات ومشيخات. وأظهرتهم ككتلة بشرية كبيرة، وأحيت ثقافتهم ولغتهم، وطورت مجتمعاتهم التي غرقت في زوايا التاريخ.

ولولا هذه الحرب لكان يمكن أن يظلوا قابعين في ولايات متهرئة ضعيفة، تعطي ولا تأخذ، وتجود دون أن ترجو شكوراً. فأربعة قرون من التجارب تحت مظلة دولة بني عثمان، كانت كافية لإقناعهم أن الإفلات من هذه المظلة هو الحل.

على أن المفارقة أن العرب لم يكونوا وحدهم الذين بعثتهم هذه الحرب. فقد أفاد الأتراك أنفسهم من سقوط إمبراطوريتهم العتيدة، وتمكنوا من بناء دولة حديثة على أنقاضها، تحتل اليوم التسلسل (16) بين دول العالم الصناعي. على الرغم مما شاب هذا التحول من مظالم، وما اكتنفه من انتهاكات، وما أهدره من طاقات.
في منتصف القرن العشرين، شعر العرب أن دولهم مازالت ضعيفة. وأنها لا تقوى على مواجهة دول كبرى، تفرض هيمنتها عليهم بشكل أو بآخر، وتقيم بينهم كياناً غريباً، وتجعلهم في حال حرب دائمة معه. وأدركوا أنهم إذا ما أرادوا أن يستردوا قوتهم المفقودة، ومجدهم الغابر، فلا بد لهم من الاتحاد. ولا بد لبعضهم على الأقل من الاندماج في دولة واحدة. فاجتماع مثل هذا يجعلهم كياناً غير قابل للاختراق. لكن مثل هذا الشعور كان في ما يبدو بحاجة إلى حرب جديدة تجتاح العالم، وتخترم فيه أرواح عشرات ملايين أخرى من سكانه. وهكذا جاءت الحرب الثانية بعد 21 عاماً من انتهاء الأولى. ولم تمس المنطقة العربية إلا مساً رفيقاً. لكنها زادت من رغبتها في الاتحاد، وقوت من هوسها بالألفة.

ولم يتحقق حلم الوحدة إلا مرتين، انفرط عقد أولاهما بعد ثلاث سنوات، بين مصر وسوريا. ومازالت الأخرى تغالب جهود التفكك والانقسام في اليمن.

وبالرغم من الفشل الذي لاقته دعوات الوحدة الاندماجية أو التعاونية، فإن الشعور المشترك بالانتماء للوطن الواحد، مايزال جياشاً في صدور العرب أجمعين. وربما بات عليهم أن ينتظروا هزة أخرى تجتاح العالم، ليدركوا أن أشد ما يحتاجون إليه هو التآلف والاجتماع وعدم التفريط بهاجس الدولة الواحدة.


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author