المسلة

المسلة الحدث كما حدث

النخبة والسلطة

25 فبراير، 2023

بغداد/المسلة:

محمد زكي ابراهيـم

لم أر من هو أكثر عقلاً من عمرو بن بحر الجاحظ، حينما رفض عرضاً بتولي الوزارة لجعفر المتوكل العباسي، وآثر أن يلزم بيته متفرغاً للكتابة، عاكفاً على التأليف، رغم أن منصباً كهذا تهفو له القلوب، وتخفق له الحناجر. ولو عرض على سواه، لبادر إليه من ساعته، ولم يشغله عن الظفر به شاغل.

والكثير من أصحابنا، ودوا لو أنه دنا منهم، أو اقترب شئ منه إليهم. فالسياسة هي على الدوام، هدف النخبة. وهم يمارسونها ليل نهار في مجالسهم العامة أو الخاصة، أو على شاشات البث الفضائي. وإذا ما تهيأ لأحد منهم مركز مرموق، أو منصب رفيع، فسيكون قد تحقق لهم الانتشار السريع في طول البلاد وعرضها.

والحقيقة أن الشأن العام، أو تولي الوزارة، رغم كل ما يقدمه لصاحبه من مغريات مادية ومعنوية، إلا أن له مساوئه أيضاً. فهو  يشغله عن عمله الأصلي، الذي رفعه لمقام الوظيفة. ولن يجد حينها الوقت الكافي للعمل. ولن يتمكن من إضافة شئ لرصيده المعرفي، هذا إذا لم يتوقف عنه بشكل نهائي حتى بعد خروجه منها، بسبب الأجواء الجديدة التي ذاق حلاوتها، أيام المنصب.

ويفترض أن النخبوي إذا ما تولى شيئاً من السلطة، فإن اهتماماته ستنصب على دعم الجانب العلمي، والمعرفي. وعلى مؤازرة زملائه ورفع المعاناة عنهم. إلا أن أحداً في العراق لم يلمس مثل هذا الصنيع. فقد تضاءلت الفنون، وتوقفت المطابع، وأصيبت الأنشطة بالخمول، في ماعدا إسهامات قليلة، ونادرة. في حين أن وزارة الثقافة (الإرشاد) في مصر مثلاً، التي أدارها الضباط الأحرار في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، أطلقت مشاريع رائدة مثل الألف كتاب، والمسرح القومي، ومؤسسة دعم السينما، وغير ها كثير، مما لم نجد له أو لبعضه نظيراً في العراق ..حتى الآن!

وهكذا فإن الجاحظ حينما عزف عن السلطة في القرن الثالث الهجري، أدرك أن موقعه الجديد سيشغله عن وضع مئات الكتب ، التي رافقته في سنوات عمره السبع والتسعين. وهناك سبب آخر لا يقل عنه أهمية، وهو العلاقة الملتبسة بين طليعة النخبة والسلطة. وبين الأخيرة والجماهير. ولو وافق الجاحظ على تولي الوزارة، لكان مصيره مثل مصير صديقه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات، الذي أعدمه المتوكل غداة إمساكه بزمام السلطة، بوضعه في تنور ملئ بالمسامير، ومنع عنه الطعام والشراب، لأنه ساير الخليفة السابق، الواثق، في محاولته إسناد ولاية العهد لابنه، وتنحية أخيه المتوكل عنها. وحينما سئل الجاحظ في أحد مجالسه الخاصة عن سبب اعتذاره عن الوزارة قال لجلسائه : “لا أريد أن أكون ثاني اثنين .. في التنور!”.

ولو نجا من ذلك فإنه كان سيلقى نفس المصير على يد خلفاء المتوكل، ومنهم ابنه المنتصر، الذي قتل أباه وجلس على العرش مكانه. ومن الطبيعي أن يفتك بمن كان يحيط به من حاشيته الأقربين، وكان ذلك قبل ثماني سنوات .. من وفاة الجاحظ  عام 255 للهجرة!

إن مركب السياسة وعر وصعب. والعاقل من وقف على مسافة منه.. إلا إذا كان قادراً على إحداث هزة اجتماعية كبيرة. فمثل هذا الأمر يشفع له تخليه عن مشروعه الخاص، لصالح المشروع العام، وانشغاله بهموم البلاد عن همه الذاتي. وتفضيله خدمة الناس على إشباع رغباته الشخصية.

 

 

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author