المسلة

المسلة الحدث كما حدث

استئناف الحياة

استئناف الحياة

29 أغسطس، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

فاضل الچالي

عشقنا التجارة منذ نعومة اظفارنا حتى صارت منطقة السنك التجارية مقرنا وكأنها بيتنا الأول…
رغم اننا نسكن الجانب الاخر من بغداد وفي كرخها مع التواء نهر دجلة، لكن الغريب امرنا كعائلة ان المهن توزعتنا، وكأنها طيور تلتقط فراخها بعيداً عن عشها الأصلي، فأخي الأكبر زكريا الذي أحب حياة الشرطة، كان ضابطاً مهيباً بطوله الفارع وشواربه الكثة التي انسجمت تماما مع قسمات وجهه الوسيم، غير المتجهم مع ان الناس تعودت ضباط الشرطة وقد غادرت الابتسامة وجوههم.

فيما ثبت محمد على مسار العائلة وقد انشبت رجلاه كالوتدين في شارع الرشيد وفي (سيد سلطان علي) في ازقة السنك، الغريب ان البغداديون اسموها شارعاً وهي منطقة تفرعت عنها ازقة بغدادية كثيرة على جناحي شارع الرشيد كان التجار وباعة المفرد والمارة والعالقون في حواريها تبدو عليهم ملامح الكد والتعب والجدية.

كنت انا أصغر اخوتي…
انا الذي اسموني بهاء، خريج كلية اللغات قسم الادب الإنكليزي، طموحاً ومقبلاً على الحياة بشدة كما كان تعلقي بأخي زكريا الذي اراه اباً ثانياً وصديقاً التصق به ليل نهار حين يكون معنا في الدار، حتى فكرت أنى ربما التحق بصنف الشرطة.. لأكون مثل زكريا، الذي يضعني على ركبتيه مثل أبن وحيد لم تلد امه غيره، وكأن الامر تقليد محبة لأخي…
كانت عائلتنا هانئة وسعيدة رغم ما يمر بنا مثل بقية بيوتات العراقيين بعد الحرب الهوجاء التي ما زالت عواقبها تترى نـذر الموت والدمار التي صمد الناس بوجه.

2
عواقبها على امل انها ستنتهي، ومضت الثمان سنوات، واتت بعدها السنوات الأصعب حين دخل الحرس الجمهوري الخاص الى الكويت بأوامر سيده ليحل الخراب الأكبر من خلال العقوبات والضربات الجوية على مدن العراق في حروب كانت اقساها في احتلال البلد بكامله من قبل القوات الامريكية، احتلال مصمم مع حماقة من تقلد مسؤولية البلد وتصميم الامريكان وحلفائهم على الفوضى الخلاقة، كما يقولون.. وبغداد تئن تحت ضربات أطراف متعددة بين كر وفر بين تلك القوات والرافضين لتواجدها، حتى كنا انا وأخي محمد نحرس بضاعتنا والمخازن وقوفاً فيما القوات الأجنبية تمر من امامنا بكل عنجهية.

العراقيون توزعوا بين فرح بالخلاص من الدكتاتورية ويرسم أحلام وردية لمستقبل البلد وبين منكر ومتوجس وبين طامح للسلطة وبين آخر حانق خسر السلطة ويفكر بالانتقام من السلطة الجديدة، فتشكلت جموع لا علاقة لها بالمقاومة لمحتل غاشم بل تنظيمات متطرفة كنا نسمع اخبارها في أفغانستان وباكستان ومصر، ولم نألف تواجدها رغم ان بعض المساجد في بغداد والفلوجة ونينوى وتكريت وديالي يخرج علينا بعض خطبائها ومريديها بلحى طويلة ودشاديش قصيرة ووجوه عابسة يتقاسمها الحقد والكراهية على كل مختلف..
تمترس العراقيون كل خلف هويته وطائفته بفعل خطابات التشدد المقيتة، التي أدت بالنتيجة الى تشكيل المليشيات المتعددة، حتى بات العراقي يخشى على نفسه ان لم يجد تعريف نفسه حقيقة او زوراً لينجو عائداً الى اطفاله بكيس الفواكه والخضار عصر كل يوم عمل.

اما انا فأشعر بالأمان لأن اخي زكريا وهو ضابط الشرطة المحترف يضفي علينا كعائلة هذا الأمان كونه شرطياً يمثل القانون في بلد يتداعى فيه كل شيء الا اننا كنا نشعر بذلك الأمان لأن زكريا بيننا.. حتى كان العام 2005 عام الألم عام الصدمة الكبرى.. كان اخي زكريا مرصوداً من قبل أولئك العابسين الذين يمقتون الحياة لم.

3
يكن مستعداً للرحيل وهو في مقتبل العمر غير عابئ بتلك الفتاوى الغبية التي جرمت كل من يعمل في الدولة العراقية واعتبرته مرتداً وكافراً، فقتلوا زكريا… قتلوا زكريا النسغ الصاعد في دمي زكريا الصديق والأب زكريا الذي يحنو علي الأستاذ الذي لم يمل من تدريسي ساعات طوال.. كان يريد لي مستقبلاً امناً وزاهراً، زكريا الذي كنت اظن انه سيرعى اولادي في حال تزوجت عماً كبيراً اتباهى به امامهم.

تمرد عقلي وبدني على كل شيء حد الانهيار والغيبوبة وعدم البكاء كان جموداً رهيباً.. التي استمرت لأكثر من شهرين، كنت انا الاخر في طريقي الى الرحيل… شهرين بلا غذاء ولا ماء، سوى ما يضعه الأطباء في الانبوب الموصل الى فمي حين يزرقني بالإبر المنومة شهرين لم أكن اصحو او اعلم بما جرى علي… سريري هو عالمي الذي لا اعلم منه أي شيء.. فمن كنت ارجوه املاً انا من ادخلته الى قبره بيدي كلتاهما..
لم اتقبل ذلك المشهد الذي اودى بي.

وفي خضم ذلك الرعب والترقب الذي خيم على رؤوس افراد عائلتي كلها ذلك انهم خسروا زكريا شهيداً… فكيف سيخسرون بهاء سقيماً!!
دخلت علي كريمة خالي التي بنفس عمري وهي تهز جسدي هزاً عنيفاً وهي تقول – من انت؟ من انت؟
اجبتها بصوت ضعيف خاوي
– انا بهاء.. انا هو رفيق طفولتك بهاء.
انكرت ذلك بقولها
– لا انت لست بهاء.
– ماذا تقولين.. انا بهاء ماذا جرى لك هل جننت؟
– بهاء الذي اعرفه كان ملاكما ورياضيا ويرفع اثقال البيت لو تجاوزت المئة كيلو غرام الى اعلى غرفة في بيتنا.. انت لست هو؟
– انا بهاء أقول لك.!

رفعت جسدي وكأني ورقة في مهب الريح وهي تلك الانثى الرشيقة التي لا تحتمل رفع قنينة غاز.

قالت: ألم أقل لك انت لست بهاء. لو كنت بهاء لنهضت من غيبوبتك لشهرين.

كانت صدمة عنيفة لي كيف عشت كل هذه المدة بلا ماء ولا غذاء، كيف صمدت اظنها بالغت فنهضت مرعوباً من سريري.. وانا اردد انا بهاء..

هرولت العائلة كلها الى مكاني.. امي التي حبست دموعها وهي كظيمة الحزن على فقد بكرها وزينة بيتها زكريا، قد انفجرت باكية وكأن زكريا غادرها للتو.. واخوتي واصدقائي الذين تحلقوا حولي ما بين الامل والالم كانت مشاعرهم مختلطة.

نهضت ضعيفاً نحيفاً فقد خسرت وزني الى حد خسران أكثر من ثلثي وزني.. ومشيت خطوات باتجاه الحديقة..
كانت الأشجار قد أزهرت قليلاً.. واصوات أطفال المحلة تتصاعد..

(يا زكريا يا زكريا عودي عليً كل سنة وكل عام نشعل صينية).

زكريا صوت أطفال تترقب عطايا الفرح زكريا الذي لم يغادر..


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لا يعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.