بغداد/المسلة:
علياء الانصاري
(أبي.. أمي.. مع التحية) مسلسل كويتي ظهر في الثمانيات، أو أنا شاهدته في الثمانينات حسب ذاكرتي المتعبة.
يتحدث عن يوميات أسرة تتكون من اب وام وثلاثة أبناء، يتفاعلون مع متغيرات العصر، ويعيشون تفاصيل معقدة في علاقة الآباء بالأبناء، ودينامكية التواصل بين جيلين، كانت من أروع المسلسلات التي غذت فترة مراهقتي، ومازال طعمها عالقا في ذائقتي، كانت تتحدث عن القيم والفضيلة عندما تغرسها الأم أو الأب في نفوس أبنائهم، وكيف يمكن ان يُدار طبيعة الخلاف في الفهم والادراك ما بين جيل وجيل آخر..
وربما من سنن الكون الطبيعية، أن الإنسان بمرور الزمن ومع تطور الحضارة والتكنولوجيا، ينمو تصاعديا وافقيا، وينضج باتجاه القيم والفضيلة بما يوائم استقرار الاسرة والمجتمع مع متطلبات العصر المتسارعة، ولكن يبدو أننا نسير عكس سير سنن الكون، فكلما تصاعدت وتيرة التكنولوجيا وزادت متطلبات العصر، كلما قلّ دور الاسرة في التربية والحماية..
لست هنا في هذه العجالة، بصدد البحث عن الأسباب، ولماذا تخلت الأسرة بعناوينها المتعددة (الأب / الأم / الاخ او الاخت / العم والعمة / الجد والجدة والخ)، عن دورها الأساسي في زرع القيم والفضيلة في نفوس الأبناء الصغار، ودورها في توفير بيئة حمائية لهم سواء في الفضاء الخاص أو العام. قد يكون لهذا مقالا آخر، ما يهمني الآن هو الإضاءة على ما يحدث لليافعين واليافعات والشباب الصغار من كلا الجنسين في الفضاء العام عندما يخرجون من المنزل الى المجتمع بمختلف مؤسساته (المدرسة / النادي الرياضي / ورش العمل / دورات تنمية / جلسات حوارية / تواصل افتراضي وغيرها)، كم من الآباء والامهات وأولياء الامور، يعرفون ماذا يسمع هؤلاء الصغار؟ الى ماذا يتعرضون من مواضيع ومواقف؟
هل أستطعنا أن نرصن القيم والفضيلة في دواخلهم قبل السماح لهم بالمشاركة المجتمعية على اختلاف مستوياتها ومسمياتها؟!
هل نتأكد من الأماكن التي يرتادونها؟ هل نسأل عن سمعة الجهة أو المنظمة أو المكان الذي يرتادونه؟
هل ربينا فيهم، القدرة على إتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب، إذا ما تعرضوا لمواقف تخدش الحياء أو تقربهم من الرذيلة وهم لا يشعرون؟
فما يحدث اليوم هو أكبر من الحديث عن خطر إستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، أو رفاق السوء، أو تعاطي المخدرات.. نعم، هو أخطر.
عندما يتعاطى الشباب، الأفكار الدخيلة على قيمنا وفضائلنا، يتعرضون لها بطريقة سحرية ناعمة، دون ان يشعروا.. وخاصة بالنسبة للفتيات الصغيرات، تلك الفتيات اللواتي يعشن العنف في اسرهن، لم يتنعمن بالحبّ والمودة والاحترام من قبل المقربين لها، لم تسمع كلمة طيبة او حنان أو إهتمام، الفتاة الصغيرة التي تُجبر على ممارسات عديدة دون ان تفهم لماذا وكيف، هذه الفتاة عندما تخرج الى الفضاء العام، وتبدأ بإستلام الأفكار المتعددة وتتعرض للمواقف المختلفة، بدعوة الحرية الشخصية والانفتاح والتقدم، لن تكون قادرة على مقاومة كل هذا!! فالمغريات تكون (مغرية)!! خاصة لمن تعيش الفراغ العاطفي والفكري والروحي.. ستكون فريسة سهلة لتلك الأفكار الدخيلة التي تدبُّ في داخلها شيئا فشيئا دون ان تشعر، حتى تكبر في داخلها وتتشكل حقيقة تؤمن بها.
أهم دور للأسرة هو أن تكون الفضاء الآمن لأبنائها، الحضن الدافئ لهم، ان تملأ فراغات الروح العاطفية، وفراغات العقل الفكرية، وان توقظ فيهم (جرس الفضيلة)، ليبقى شغالا معهم إينما ذهبوا وحلوا..
حينها، سنكون مطمئنين على أبنائنا وبناتنا ونحن نشجعهم ونزجهم على ممارسة كل الانشطة الاجتماعية دون خوف أو وجل.
أنا مع أن يدخل الشباب في التجربة، ان يجربوا ليتعلموا، لينضجوا، ليكبروا، ولكن بشرط، ان تكون الارضية التي يقفون عليها صلبة، وان نغرس فيهم الوعي والفضيلة والقيم الاخلاقية، حتى لا نقلق عليهم.
حماية ابنائنا في هذا الزمن الصعب الخطر، لا تكمن في حبسهم في البيوت، بل في تربيتهم التربية الواعية الايجابية الفاضلة، التي تجعلهم قادرين على التمحيص بين الحق والباطل، وبين الفكرة الصادقة والفكرة الخبيثة، وبين المفاهيم الصحيحة والخاطئة..
اعتقد أن المرحلة الراهنة التي نعيشها هي أخطر مرحلة مرّت علينا خلال العقود الماضية، لعدة أسباب، لستُ بصددها الآن، وتكمن خطورة هذه المرحلة بما يمكن أن أسميه (فوضى المصطلحات والمفاهيم) مقابل ضبابية (مفهوم الحرية الشخصية) والتي أصبحت مفهوما مطاطيا قابلا للتأويل كل حسب هواه ونزواته.
وفي هذا الأطار، ما يحاولون ترويجه الآن، ضمن باب الحرية الشخصية، هو الاعتراف ب (الشذوذ الجنسي) او ما يسمونه بـ (المثلية).
عندما يتعرض شبابنا الصغار، الى طرح ان الشذوذ الجنسي هو احتياج، وهو حرية شخصية، ويحاولون دمج هذه الفكرة بعدة أشكال وعلى مختلف المستويات، وبطريقة ناعمة وعسلية.. تجعل الشباب يستأنسون لها، وبمرور الوقت قد يؤمنون بأن (الشاذ الجنسي)، شكل من أشكال النوع الاجتماعي الذي له حقوق يجب الاعتراف بها.
هذا ما يحدث من حولنا، دون ان ننتبه اليه، ولديّ أدلة كثيرة على ما يقوم به البعض ممن يدير أنشطة متعددة للشباب الصغار، على سعيهم الى تمرير هذه الفكرة وغيرها من الأفكار دون ان ينتبه اليها الشباب ودون ان يكون للأسرة واولياء الأمور أي دور في هذا المجال لانهم في غفلة من أمرهم.
مثلما تم تمرير العديد من الأفكار الأخرى والتي أصبحت الآن حقائق يؤمن بها بعض الشباب ويروج لها دون ان يعرف ما هو صانع.
أحبتي من الشباب والصبايا: انا مع حقكم في التجربة الاجتماعية، ومع حقكم في التعلم وتطوير مهاراتكم / ن، ولكن ليس كل إناء يقدم لنا نشرب منه، وليس كل مشروب، صالح للشرب..
حاولوا ان تحددوا مساراتكم، وتتيقنوا من الجهات التي تُنظم لكم الانشطة والدورات، ليس مهما عدد الدورات التي دخلتموها، ولكن المهم، ما هي الدورة المفيدة لكم، من سيعطيها لكم؟ من هؤلاء؟ من هذه الجهة؟
لا تكونوا فريسة سهلة للأفكار الدخيلة غير الفاضلة.. أن لم تكن أسركم ناضجة بالوعي الكافي، كونوا أنتم الوعي الناضج لها..
ان لم تكن اسركم قد وفرت لكم مقومات الحماية، فأوجدوها أنتم لأنفسكم، احموا أنفسكم مما يُراد بها..
هناك من يروج للمخدرات للقضاء على الشباب واليافعين، وقد نجحوا..
وهناك من يروج للأفكار الضالة الدخيلة والرذيلة للقضاء على ما تبقى لنا من قيم وفضائل وروح طاهرة، فأتمنى أن لا تجعلوهم ينجحون في هذا.
قيمة المرء بما يملك من فضائل وقيم ونقاوة وطهارة، بما يتلائم مع سنن الكون ونظام الطبيعة، فكل ما خالف سنن الكون ونظام الطبيعة فهو باطل.
ليس بالضرورة ان نمارس الرذيلة، ولكن الرضا بها، القبول بها، السكوت عنها، التغاضي عنها… هو (الرذيلة) بعينها.
الساكت عن الشيء، داخلٌ فيه.
الراضي بالعمل، شريكٌ فيه.
والتغاضي عن الرذيلة، نشرُ لها.
جميعنا بحاجة الى مزيد من الوعي والحذر والحكمة، آباء وأمهات وأبناء، رجال ونساء وشباب.. مواكبة العصر والحداثة لا تعني التنازل عن القيم والمبادئ والفضيلة، ولا يمكن ان تكون هي الإباحية بوجه آخر.
شاركوا التجارب، اصنعوا التغيير.. كونوا جزءا من الحراك الاجتماعي، ولكن ليس على حساب القيم والفضيلة ونظام الطبيعة، ولا ترضوا بالمنكر أبدا.. فالرضا به والسكوت عنه، هو المنكر نفسه.
ليأخذ كل واحد فينا، (جرس الفضيلة)، ويحمله إينما ذهب.. فقد باتت الفضيلة غريبة بين أهلها.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
أخبار ذات علاقة
من نظام الأسد إلى علم الاستقلال.. الإعلام السوري يغيّر جلده في ليلة وضحاها
العرب بين حداثة الزيف وأزمة الوعي
الازدواجية بين الأسد وصدام