المسلة

المسلة الحدث كما حدث

المنطقة رقم 1

27 أغسطس، 2022

بغداد/المسلة:

محمد زكي ابراهيم

لو جرى ما جرى خلال الأيام الأخيرة في المنطقة رقم واحد، في أي مكان آخر من العالم الثالث غير العراق، لانهار، وتقوض، وساد الهرج والمرج فيه. وباتت حياة الملايين من مواطنيه في خطر محقق. لكن مثل هذا لم يحدث أبداً، ولم تتوقف الحياة في البلاد. وسارت الأمور على طبيعتها، باستثناء بعض الزحام، في شوارع قليلة، ومحدودة.

مثل هذا الفعل، لم نشهده من قبل إلا في انقلابات عسكرية، جرى فيها استبدال الوجوه بأخرى، وتغيير الزعامات بثانية. وسالت فيها الدماء، وغابت أسماء، وظهرت أسماء جديدة. فاحتلال المنطقة رقم 1، التي أطلق عليها اسم الخضراء، يعني الإطاحة بنظام حكم، والمجئ بنظام حكم آخر.

لكن أياً من هذا لم يتكرر في العراق عام 2022، رغم أن من اقتحم مبنى السلطة التشريعية كان ينوي ذلك بكل تأكيد. وكان عازماً على الفتك بمن يجده أمامه من خصومه. فغريزة القوة التي تتحكم بالقاتل، تجعل الموت ملهاة لا تثير لديه سوى العبث والسخرية، مثلما حدث في تموز عام 1958، أو في ساحة الوثبة عام 2019. لقد تغيرت الأمور حتى بات احتلال المقر الرسمي للدولة ، وتدفق الآلاف من كل حدب وصوب عليه، حدثاً عادياً لم يترتب عليه أي توقف أو ارتباك في الشارع. ولم تتضاعف الأسعار، ولم تختف المواد الأساسية من السوق. هذه المفارقة تستدعي التأمل والبحث، والنظر والتفكير. وتدل على أن الناس لم ينظروا للأمر نظرة جدية. ولم يشكوا في أن ما وقع سينتهي دون أي نتيجة.

ويدل كذلك على أن العراق تجاوز منطق الانقلابات التقليدية، التي تستأثر لنفسها بالسلطة. ولم يعد ثمة من يكترث للقوى التي تريد إرجاع عقارب الساعة للوراء، وتحاول فرض إرادتها على المجتمع، بالحديد والنار.

بل إن السلطة القضائية التي جرى التجاوز عليها ليوم وبعض يوم، استطاعت قلب الطاولة على المتجاوزين. وأصدرت مجموعة من القرارات التي تدين المتهاونين والمحرضين والمتواطئين بالجرم المشهود. وتلزم الوزارات الأمنية بوضع هذه القرارات موضع التنفيذ. وكان رد الفعل السريع هو انسحاب جميع المتواجدين أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى، وإخلاء المكان، وتنظيفه من كل أثر يدل على هذه العملية الساذجة البعيدة عن المنطق.

ربما كان هذا الفعل هو أبلغ ما حدث في العراق خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة. وأفضل ما انتهى إليه من نتائج. بعد الاحتجاجات غير المنضبطة في الشوارع والساحات، التي توقفت مع اجتياح وباء الكورونا للبلاد. حتى إذا ما انبعثت ثانية باحتلال مبنى مجلس النواب، في صيف هذا العام، أعاد القضاء في ما يشبه الثورة ما افتقدته البلاد من هيبة واحترام وسيادة.

فبعد سنوات طويلة من محاكم الثورة السيئة الصيت، التي أرسلت عشرات الآلاف من الأبرياء للمشانق دون ذنب أو جريرة. وكان الفيصل فيها الولاء لنظام الحاكم الفرد، تحرر القضاء من هيمنة السلطة، وبات هو اللاعب الأقوى. ولم يعد ثمة من يستطيع العبث بثوابته، المستمدة من الدستور والقانون. فله وحده وليس لسواه الكلمة الفصل في كل ما تشهده البلاد من تجاوزات الآن وفي المستقبل القريب.

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.

About Post Author