المسلة

المسلة الحدث كما حدث

المتربصون بالاسلام السياسي

6 ديسمبر، 2022

بغداد/المسلة:

إبراهيم العبادي

لم يتوقع السياسي الماليزي الأشهر، مهاتير محمد خاتمة لحياته السياسية الثانية بالسقوط الانتخابي المدوي ،حينما اخفق بعد 53 عاما في الفوز بالمقعد الانتخابي وفي معقله التاريخي جزيرة لانغواكي.

قبل الانتخابات بيوم واحد كان مهاتير يتوقع تكليفه بتشكيل الحكومة في حال لم ينجح الساسة الكبار المتنافسون في تحقيق الأغلبية، لكن المزاج الماليزي الجديد خذل السياسي الاقدم في العالم ولم يمنحه شيكا على بياض ،فقد جاء ترتيبه الرابع في منطقته ،وهكذا خسر الرجل الذي يوصف بانه اسطورة ماليزيا وباني نهضتها المعاصرة ،رغم انه بلغ من العمر عتيا (97 عاما).

لاشك انه درس للساسة والأحزاب وللقوى الإسلامية بالخصوص لكي لا تراهن على شخصية كارزمية وحدها ،فتحصر خياراتها بالرموز بدلا عن السياسات والبرامج والقيم المتجددة ، ومتابعة تطلعات الشارع السياسي ومتطلبات الأجيال الجديدة وانشغالاتها بالمستقبل والحريات والرفاه ،غادر مهاتير محمد السلطة باختياره في عام 2003 لينصرف الى كتابة مذكراته ويلخص أفكاره في محاضرات وملتقيات يقدم فيها خلاصة تجاربه الطويلة مذ كان طالبا في كلية الطب حتى تبوأه رئاسة الحكومة والسلطة على مدى ما يزيد على العشرين عاما تقريبا (1981-2003) نقل فيها ماليزيا المتخلفة وقتها ومسلميها الملايين من حالة الجمود والكسل الى المنافسة على زعامة النمور الاسيوية كما يسميها رجال المال والاعلام ،مع الاعتراف طبعا بدور الاقليتين الرائدتين الصينية والهندية في نهضة ماليزيا السريعة ،والسبب في ذلك يعود الى حنكة مهاتير وتخطيطه الذكي وعقله الاستراتيجي الكبير فقد صنع سلاما داخليا ونظاما اقتصاديا نشطا ومنتجا وفعالا مركزا على الاستثمار والتعليم ودعم قطاع الاعمال والابتكار.

عاد مهاتير 2018 ليترشح على قائمة المعارضة التي كان يزدريها ابان حكمه ليسقط زعيم الحزب الذي خلفه في الحكومة نجيب عبدالرزاق ،وهو حزب الجبهة القومية الملاوية المتحدة، حزب المسلمين الأول الذي قاد معركة الاستقلال عن بريطانيا والمشهور باسم (امنو )، لكن الحزب الذي حكم البلاد 60 عاما شاخ وضربه الفساد في اعلى هرميته السياسية ،ونجح مهاتير عام 2018 بالإطاحة برئيس الحكومة المتهم باختلاس أموال صندوق الاستثمارات السيادي الماليزي لينتهي به الحال سجينا هو وزوجته ومصادرة أمواله بعدما حكمتهما المحاكم بالسجن طويل المدة (12سنة).

خسر مهاتير الانتخابات الأخيرة، لتكون هذه الخسارة درسا كبيرا لكل السياسيين الذين يتوقعون ثبات صورتهم وتقديرهم لدى الجمهور السياسي، فرغم المنجز الكبير لمهاتير وعودته القوية بعد اعتزاله السياسة خمسة عشر عاما وفي سن متقدمة جدا، لكنه لم يحسب حسابا لنهاية حياته السياسة بالطريقة التي تجعل صورته باقية بلا خدوش ،لا ادري ان كان مهاتير محمد يؤمن ايضا بنظرية (التكليف الشرعي) التي تجعله راغبا بالسلطة حتى وهو يقترب من عمر المائة عام ،لكن المظنون به ان ثقافته الإسلامية ربما جعلته يواصل مهمته الرسولية الانقاذية ، ويتوقع ان الجمهور يبادله الافكار والمشاعر ،غير ان الشباب الماليزي من الذكور والاناث كان يتحدث هذه المرة لغة سياسية ثانية غير لغة الهوية الملاوية او الاكثرية المسلمة والاقليات البوذية والهندوسية ،انه جيل يتحدث عن الهوية الماليزية الحديثة ،هوية الثقافة الجديدة والبصيرة السياسية التي تتكلم عن مستقبل البلاد ،اقتصاديا وبيئيا وامنيا بعدما اكل الفساد من جرف الاحزاب التقليدية وساستها ، ولم تعد صورة الزعيم مهاتير مبهرة وذات رمزية خلاصية فحسب.

سقط مهاتير في موجة سياسية جديدة تنبيء عن اشكال من التفكير والوعي السياسي تذكر بسقوط تشرشل في الانتخابات التي جرت بعد الانتصار الكبير على النازية عام 1945، وربما لاسباب متقاربة تذكر خسارة مهاتير بخسارة الراحل الشيخ هاشمي رفسنجاني للدور الثاني من انتخابات الرئاسة امام احمدي نجاد عام 2005 .رغم فارق الرصيد السياسي والاجتماعي بين الشخصيتين.

في الامثلة الثلاث المشار اليها ،ثمة قاسم مشترك ينبغي البناء عليه جيدا ،فعظمة الشخصية وانجازها الكبير وحضورها الواسع ليست رصيدا ثابتا عند الجمهور ،الثبات يعني غياب الادراك للمتغيرات الاجتماعية بما فيها من قيم وانماط تفكير وعلاقات ،ويعني ايضا اهمالا للمتغيرات الاقتصادية والسياسية ،فترهل الانظمة وغياب الاصلاح والتجديد وانتهاء المشروع الحلم يجعل الاجيال الجديدة لاتفكر بالمنجز التاريخي بقدر تفكيرها باولويات ومصالح واهتمامات متجددة وربما متغيرة ،اخطر ماتواجهه الاحزاب والحركات والانظمة هو ثباتها على اهداف واولويات تصبح بمرور الزمن عبأ على الجمهور الطامح الى التغيير.

جزء مما يجري في ايران (الجمهورية الاسلامية )هو الانفصال بين القوى الحاكمة ذات الايديولوجية المتصلبة وبين جمهور ينادي بالتغيير ،حينما تكتفي الزعامات والكادرات السياسية والمنظمات برصيدها التاريخي وتغفل عن قراءة الديناميكيات الاجتماعية والحراكات السياسية فانها تفشل في تقدير المتغيرات وتتراجع قدراتها على الموائمة والتكيف مع متطلبات واقع جديد لم تستعد له ولم تفهمه اساسا، فتستمر في خطابها الصلد ولغتها الجامدة واهتماماتها الساكنة فيما يمضي الجمهور في حراكاته ويطور مطالباته بناء على احتياجاته وطموحاته ومقارناته مع الدول والانظمة الاخرى، التخلف عن التحديق بالاغوار العميقة للامور يكشف عن تصلب الاعتقادات السياسية وجمود التفكير السياسي وهو مايؤدي الى خسارات سياسية وسقوط زعامات تاريخية وانقلاب الامور في لحظة عجز عن المبادرة.

ان الغفلة عن عنصر الزمن وحفرياته العميقة هو المسار الاكثر خطورة على جميع الوجودات السياسية ولاسيما الجماعات والزعامات الاسلامية بما يجعلها تندهش من مداهمات غير محسوبة تتصورها ردة اجتماعية عن المباديء والهوية والشعارات الاساسية كما تسميه ،انها تتحدث عن اعداء ومتربصين يضللون الجمهور لكن ذلك جزء من الحقيقة وليس كلها فالمتربص الاول هو الزمن واستحقاقاته والمستقبل وتطوراته Evolving future .


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.