المسلة

المسلة الحدث كما حدث

عقلانيات السياسة

عقلانيات السياسة

21 أغسطس، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

ابراهيم العبادي

عصر السبت الموافق للثاني عشر من اب الجاري ،التئم جمع محدود من الباحثين والناشطين والمهتمين بدعوة من مركز البيدر للدراسات للاستماع الى السفير العراقي اللامع لقمان الفيلي وهو يتحدث عن تجربة وحدة الالمانيتين عام 1990 ودروسها العملية وامكانية استفادة العراق من هذه التجربة . الفيلي تحدث عن الارادة والثقافة الحزبية والقدرة الاقتصادية والماكنة الدبلوماسية التي كتبت قصة النجاح الالمانية .

سبق لمركز البيدر خلال العامين الماضيين ، ان جمع الباحثين في ندوتين مهمتين ،الاولى كانت للدكتور هشام العلوي وكيل وزارة الخارجية الحالي والسفير السابق في جنوب افريقيا ليتحدث عن تجربة الانتقال الديمقراطي في جنوب افريقيا ومشكلات الحوكمة والفساد والتنمية والاندماج السياسي وكيف نجحت جنوب افريقيا ان تحقق قدرا من النجاح رغم الصعوبات الهائلة ،والثانية كانت للسفير الفيلي ذاته حيث قدم شرحا مفصلا عن دروس التاريخ السياسي لالمانيا بعيد الحرب العالمية الاولى ،يوم اشتبكت الاحزاب والتيارات في صراع سياسي ومناكفة حزبية وانقسام ايديولوجي كبير، لم تنجح معه جمهورية فايمار في ادارة الوضع حتى تمخض الضعف السياسي والهشاشة الاقتصادية والصراع الحزبي عن نتيجة سامة ،اذ صار الالمان يتوقون للخلاص من هذا الواقع فيندفعون مع كل دعوة الى القوة والمواجهة واسترداد مايعتقدونه حقا ضاع منهم استلهاما لفلسفات القوة النيتشوية ،فكان ان انتشرت الدعوة القومية المتطرفة، لتتحول معها المانيا الى النزعة النازية بسرعة مذهلة ، ولتقود اوربا الى انتحار كبير بفعل حرائق الحروب التي دشنها هتلر ، ولم تخرج منها المانيا بنتيجة سوى احتلالات متعددة لارضها ، وانقسام في مجتمعها ، وتدمير لدولتها مالبثت ان عالجته في غضون 44 عاما معتمدة على حكمة رجال سياسة افذاذ امثال كونراد اديناور وويلي برانت وهلموت كول وثقافة مجتمعية منتجة بنت نموذجا لدولة الرفاه مجددا ، واستعادت بسرعة قسمها الشرقي (الشيوعي )غداة انهيار المنظومة الاشتراكية عام 1990 .

تجارب الدول ودروس التاريخ المعاصر هي مايغري الباحثين الجادين ومنهم بعض الدبلوماسيين العراقيين من ذوي الهمم والبصائر ، للتعلم منها ونقلها الى الوسط العراقي ،ابتداء عبر النخب المتعلمةذات الاهتمام ، ومنها الى الاوساط السياسية والمتحزبة لعلها تستفيد في بناء ثقافتها السياسية فتنتقل من الاحادية والجمود ، نحو الادراك المعمق والدراية المنفتحة والتواضع المعرفي والعلمي ، علها تسهم في انضاج وتطوير التنمية السياسية الجارية في العراق ، وهي تنمية مشوبة بالفوضى الحزبية والصراعات المتعددة الاشكال ، والاستعمال الواسع للمال السياسي مع فساد كبير .

المثير في ندوةمركز البيدر الاخيرة ان القائم بالاعمال الالماني السيد ماكسميليان راش كان مشاركا فيها بحماس كبير ، وكانت كلماته تدعو الحاضرين الى استلهام التجربة الالمانية التي يتحدث عنها بفخر واعتزاز، مشيرا الى ان الشعب الالماني في الشطر الغربي تقبل الكلفة الاقتصادية للوحدة الاندماجية عن طيب خاطر والبالغة 1500 مليار دولار ،لان المانيا دولة محورية مهمة ، وهي قاطرة الاستقرار والنهوض الاقتصادي في اوربا ،كما العراق الذي لايقل قيمة ستراتيجية في موقعه ومحيطه الجغرافي وتاريخه وديمغرافيته المتنوعة .
سلسلة الندوات هذه التي تركز على تجارب عالمية مهمة في البناء السياسي والاقتصادي والانتقال الديمقراطي ،تطرح تساؤلات جادة عن طبيعة الثقافة السياسية في العراق وخصائصها ودورها في ماحدث ويحدث راهنا من انتكاسات وفشل ،فليس سرا القول ان احد اكبر مشكلات العراق التاريخية هي معتقدات العراقيين السياسية و النزعات والاهداف والقيم التي يسعون الى تمثلها في واقعهم السياسي والاجتماعي ، حيث ينوس المؤشر بين المثالية المفرطة والواقعية المحبطة .

لقد حلت بالعراق حوادث ونوازل وكوارث كبرى ، ومتغيرات ومنعطفات اكثرها دام وعنيف ،وكل نازلة منها تشع دروسا ملهمة لتفادي المزيد من الاخطاء والسياسات الحمقاء ،ولانبالغ اذا قلنا ان التنشئة السياسية في العراق تتحمل وزر الكثير من السلوك السياسي المفعم بالارتجال والتهور والمغامرات والاندفاعات (الثورية) غير المتزنة ،فيما تتوارى الاتجاهات العقلانية وتقمع سلطويا او تهمش اجتماعيا بسبب غلبة نموذج الانفعال السياسي الذي يتسم به العراقيون .

فائدة الاطلاع على تجارب الشعوب والدول الاخرى في العالم ،انها توفر معرفة ناجزة تحفز في مقاومة التحديات والصعوبات والاطلاع على مسارات الحلول وتحقيق التطلعات والاهداف .
امامنا تجارب الانتقال الديمقراطي في اكثر من بلد عانى من الاستبداد والشمولية والقهر السياسي والحروب الاهلية ،وامامنا تجارب ملهمة في ادارة التنوع والاختلافات الاثنية والطائفية والعرقية ،ويرتسم في لوحة التجارب العالمية نماذج في البناء الدستوري الناجح واللامركزية الادارية والتنمية الاقتصادية الرامية الى توسيع مداخيل الدولة واستيعاب جيوش العاطلين والهروب من ريعية الاقتصاد الى فسحة التنوع الاقتصادي .
كما تتظافر التجارب الدولية تجربة بعد اخرى في مواجهة تغلغل الفساد وتغول المال السياسي وانتشار مافيات التربح والزبائنية ،وكل هذه النماذج العالمية مدعاة للدراسة والتبصر والمحاكاة والاحتذاء ،فمازلنا في العراق نخطو الخطوات الاولى بين تعثر ونجاح نسبي للافلات من طوق محكم من الازمات والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ،ومامن بلد تجاوز منعطفاته التاريخية بدون وعي سليم وثقافة نقدية ، وارادة سياسية لدى كتلته التاريخية واجماع وطني على اولويات ومفاتيح حلول لتحقيق النهوض والاقلاع في مشروع التنمية الشاملة (التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية )باشتراطاتها الكبرى، المتمثلة بالراسمال الاجتماعي والبشري والادوات المادية والامن الداخلي والبيئة الخارجية المواتية .

الان حيث يسود اجماع داخلي بان العراق يحتاج الى التركيز على تحديات البناء الاقتصادي ومواجهة تغيرات المناخ ، من جفاف وتصحر وتلوث وامراض وفقر وبطالة ،وهي تحديات كبرى ، تحتاج الى استقرار سياسي وامني لمعالجتها ، ومشاركة وطنية وحوكمة حديثة فعالة لتجاوزها ، وتعاون اقليمي ودولي للتغلب على صعوباتها وعراقيلها ، ماتزال الثقافة السياسية تحبط وتمنع التوفر على مشروع وطني كالذي انجزته المانيا ، او كالذي حققته رواندا ،او كالنجاح الذي تحقق لجورجيا في مكافحة الفساد ،او كما حققته اقتصاديا ماليزيا واندونسيا وتايلند وفيتنام والهند وتركيا وشيلي ،وكل هذه الدول لها مساراتها وتجاربها في البناء الدستوري والتنمية السياسية ، قبل ان تنجح في البناء الاقتصادي .بناء الاقتصاد له شروطه الضرورية سياسيا وامنيا وثقافيا .

امامنا شوط طويل للتعلم ، شريطة الانفتاح على تجارب العالم وتجاوز الوعي المسموم بفرادة الحالة العراقية ،والتعكز المضر على الخصوصية ،فليست الخصوصية مانعة من استلهام تجارب الاخرين، بقدر ماتكون حجابا يمنع التبصر والقراءة الواعية ويبرر العجز والفشل .

تميل ثقافتنا السياسية الى اعتماد الذاكرة ومسلماتها التاريخية، وتعتمد النزوعية وتحويل خطوط الصراع والتنافس على السلطة الى صدوع كبيرة ، تمنع من التوافق على المشتركات وتقديم المصالح الوطنية الكبرى على ماسواها ،وحتى يحصل انعطاف في هذه الثقافة ،تظل النخب ومراكز الابحاث ومنابر التثقيف مكلفة بالسعي الحثيث للترويج لعقلانيات التفكير السياسي بدل الاجتياح المسطح للعقول الذي تمارسه قوى ومنابر تتسيد الساحة .

 


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.