المسلة

المسلة الحدث كما حدث

الحزبية العراقية ..تاريخ من التصدعات والتقلبات

الحزبية العراقية ..تاريخ من التصدعات والتقلبات

11 سبتمبر، 2023

بغداد/المسلة الحدث:

ابراهيم العبادي

يوصف المجتمع العراقي بانه مجتمع احزاب ،فتاريخ العراق الاسلامي يضج بعناوين تاريخية كبرى لانقسام الناس الى اتجاهات فكرية-سياسية تنافست وتصارعت على ارضه وشكلت الجذور الاولى للثقافة السياسية التي صارت جزء من التنشئة الاجتماعية ومصدرا من مصادر التثقيف والبناء النفسي والثقافي للفرد ، اشهرها على الاطلاق مايُطلق عليه بعض المؤرخين وكتبة التواريخ ومفسريه ب (صراع الحزب الهاشمي والحزب الاموي) ،اذ شهدت بطائح العراق ومدنه واماكنه النائية ولادة حركات سرية ذات جذور فكرية وعقائدية، نشطت سياسيا وخاضت معاركها الايديولوجية وحروبها الثورية على امتداد قرون ،كان العراق ومايزال ولادا للفرق والاحزاب المعبرة عن ميول وتفضيلات ومصالح العراقيين ،ويوم حلت العشائر محل الاتجاهات السياسية في التعبير عن المصالح الاجتماعية والاقتصادية .شهد العراق حروب تمردات وصراعات بين العشائر وبين سلطة قاسية لاتعرف غير جمع الريوع الزراعية وفرض الاتاوات على التحالفات العشائرية والقبائل ،كانت هذه التحالفات تعبر بشكل واخر عن مصالح السكان وتحل محل الاحزاب في الدفاع عنها .

قبيل رحيل العثمانيبن وبعد هبوب ريح الغرب الناهض ، بدات تتشكل في احشاء المدن العراقية الكبيرة انوية لجمعيات مثل النهضة والعهد والاصلاح والعربية الفتاة ، متأخرة عما كان يجري في اسطنبول والقاهرة وبيروت ودمشق ،حتى اذا تأسس العهد الوطني وولدت دولة العراق المعاصر عام 1921 افتتح الزعيم الوطني محمد جعفر ابو التمن اول رخصة لحزبه السياسي وفقا لقانون الاحزاب النافذ عام 1922 ليبدأ عصر الاحزاب العلنية الجديدة والحياة السياسية التي تنازعتها سلطة الانجليز و سلطة القصر وصراعات رجال السياسة ، وهم نخبة البلاد التي ادارت العمل السياسي عبر انتخابات المدن واحزاب الصالونات السياسية وتجمعات الباشوات والشيوخ ، معتمدين على شرائح بيروقراطية ناشئة من موظفين ومتعلمين جدد .

واديرت العملية السياسية بين احزاب النخبة بناء على تماثل الرغبات والمصالح بين برجوازية مدن ناشئة واقطاعيات القرى والبلدات التي يتزعمها شيوخ القبائل وابناء (الطبقة الحديثة )من موظفين وعسكريين ومحامين وتجار .

الوصف الاشهر الذي التصق باغلب احزاب العهد الملكي العراقي الكثيرة، انها احزاب صالونات هدفها بلوغ السلطة والدفاع عن مصالح هذه الطبقة الجديدة والمشاركة في اللعبة السياسية (احزاب اغلبية نيابية تشكل الحكومة )قبال اقلية معارضة وكلها تحت سقف القانون والدستور بلا اذرع مسلحة ولاتنظيمات عسكرية سرية تمارس اغتيال الخصوم ،بل احزاب تتشكل بسرعة وتسجل نفسها ويعلن عنها ثم تختفي بعد مدة لتظهر باسماء اخرى ،وهدفها الفوز باول انتخابات قريبة ،هذه الاحزاب باستثناء الوطني الديمقراطي افتقدت الى بنية تنظيمية راسخة وقواعد جماهيرية ملتزمة وانظمة داخلية فعالة وديمقراطية داخلية تمنع الاندفاعات والتمردات والانشقاقات الداخلية .

كانت اولوية احزاب وجمعيات العهد العثماني ،اصلاحية ليتحول بعضها الى استقلالية قومية ،فيما تمحورت شعارات ومناهج بعض احزاب العهد الملكي الاول حول الاستقلال الناجز وتعديل المعاهدات مع البريطانيين وتحسين الظروف الاقتصادية والمعاشية ،وتوزعت اهتمامات اخرى على قضايا قومية ووطنية ، وتراوح تصنيف هذه الاحزاب بين تيارات محافظة واخرى ذات نزعات تحديثية ساعية الى الاغلبية البرلمانية .

،مالم تتنبه له الطبقة السياسية حينها ان احزابها الصالونية لم تستوعب طموحات الناس ومشاغلهم واهتماماتهم سيما مع تصاعد وتائر التعليم والوعي السياسي والاحتكاك بالتجارب ودخول الافكار والايديولوجيات والنزعات ذات الشعارات التغييرية والثورية ،فكان ان شهد العراق ولادة احزاب ايديولوجية ذات منظومات فكرية نازعة الى الانقلاب على الواقع الموجود ، مثل الشيوعي والبعث والاحزاب الاسلامية ،ونتيجة لفشل الاحزاب القديمة في مجاراة الوعي السياسي الجديد ،وبغياب تقاليد سياسية واعراف راسخة تستوعب الجديد وتطور القديم ،بدأ التناشز السياسي يتسع بين الاتجاهات السياسية ذات الاختلاف الكبير في التوجهات العامة والرؤية السياسية ،حتى دخل العراق ستينيات القرن المنصرم وحياته السياسية ساخنة يجللها العنف السياسي حينا والخصومة الحزبية حينا اخر ، والعداء الايديولوجي والريبة الشاملة على اسس قومية وطبقية ومناطقية ومذهبية في احيان كثيرة .

صنف الباحثون احزاب العراق الى خمسة اتجاهات :
الاول :الاحزاب المحافظة وهي بطبيعتها تريد الحفاظ على الوضع القائم دونما مجازفات ثورية وتغييرية كبرى ،فمصالحها ومصالح محازبيها مع المحافظة على الموجود وتطويره تدريجيا .

الثاني :تيارات اصلاحية تنحو نحو الافكار الجديدة .

الثالث :تيارات ثورية انقلابية ، مثّلها الحزب الشيوعي العراقي وحزب البعث لاحقا

الرابع :التيارات القومية المؤمنة بالحقوق والوحدة القومية ، كالاحزاب العروبية القومية والاحزاب القومية الكردية واحزاب الاقليات .

الخامس :التيارات الدينية ومثلتها الاحزاب الاسلامية والجمعيات وعنوانها الرئيس الاخوان المسلون (الحزب الاسلامي )حصل على الاجازة لمدة سنة ثم اغلق ابوابه ،التحرير الاسلامي (لم يحصل على ترخيص بالعمل وظل حزبا سريا ،ثم حزب الدعوة الاسلامية الذي لم يعلن عن نفسه، ولم يتقدم بطلب الاجازة ،سبقته حركتا الشباب المسلم و العقائديين المسلمين .

يلاحظ ان التجربة الحزبية في العهد الملكي ذات المسحة الليبرالية لم ترسخ تقاليد حزبية قادرة على الصمود بوجه متغيرات السلطة ،فلم يتبق من احزاب تلك الحقبة الا الوطني الديمقراطي وتوقف عن العمل عام 1960 ،وتسيدت الساحة الاحزاب الشمولية ذات المنحى الايديولوجي ،ونشطت في الدعاية لفكرها وتمددت اجتماعيا مستفيدة من متغيرات الوعي السياسي عالميا ومحليا، حيث سادت نزعات التحرر والاستقلال الاقتصادي والسياسي ومواجهة الامبريالية وقوى الاستعمار ومعاداة الغرب وتاييد المعسكر الاشتراكي ، ،وفي كل مرة كانت الشعارات مستجيبة لهذا الواقع سريع التقلبات ،وقد انقسم الشارع العراقي الى تيارات تقليدية ومحافظة متوجسة من الاحزاب الجديدة ذات الشعارات الطوباوية الحماسية ، لكنها مصرة على فرضها بشتى السبل بما فيها الاكراه والضغط والتهديد والنظر الى الرافضين لها على انهم اعداء ينبغي تجاوزهم بقوة .

مع بدء الشمولية البعثية واضطرار الاحزاب الاخرى الى النزول تحت الارض وممارسة العمل الحزبي سريا او مغادرة البلاد ومعارضة مايجري في الداخل ،ظهرت اعراض الخضوع لضغط سياسات الدول المستضيفة ومصالحها واستقطاباتها ،وبدات مرحلة جديدة في تاريخ العمل الحزبي العراقي عنوانها التعددية المفرطة الحاكية عن النرجسية السياسية وصعوبة التوافق والتوحد وكثرة الانشقاقات والتصدعات المتلاحقة وظهور المحاور السياسية التي تدور حول اشخاص وزعامات مع غياب القواعد الجماهيرية والاستعاضة عنها بتجمعات بشرية متحركة متغيرة الولاءات والانتماءات .

انتهت حقبة البعث الشمولي الاستبدادي وعراقيو الداخل لايعرفون غير تجربة الحزب الواحد المقترنة بالزبائنية والنميمة الامنية والسياسية وثقافة الفكر الشمولي والعسكرة والصراع الدائم ضد اعداء داخليين وخارجيين ،وبقيت ذاكرة الاجيال الاقدم تستحضر صراعات الشوارع بين اليسار الماركسي والبعث القومي ويوميات الحرس القومي ونقرة السلمان وابي غريب وفنون التعذيب والاجرام والقتل والاعدامات الجماعية للاسلاميين والكرد والاغتيالات المنظمة في داخل العراق وخارجه .

خرج العراقيون من عالم الشمولية والاستبداد بلا تجربة حزبية ديمقراطية ولا عمل حزبي علني في اجواء سياسية طبيعية ،بل ان التجربة الحزبية في نصف القرن الماضي كانت تجربة عمل سري في اغلبها وعمل تعبوي معارض مصحوب بكفاح مسلح وصراعات بينية على من يقود ومن يتزعم وباي فكر ووفق اي نموذج ونظرية سياسية .


المسلة – متابعة – وكالات

النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.